هل أنقذ التلفزيون الفرنسي صورة نتنياهو؟
منذ جريمة مجزرة مُخيّم رفح، في 26 الشهر الماضي (مايو/ أيّارالماضي)، تطوّر مشهد التضامن الفرنسي مع غزّة بشكل ملحوظ وواسع، إذ خرجت يومياً تظاهرات لعشرات الآلاف في باريس وكلّ المدن الفرنسية، عبّر فيها الفرنسيون عن غضبهم تجاه المجزرة وإدانتهم المجرم نتنياهو. على عكس التظاهرات السابقة، التي طغى فيها حضور الشباب، شهد الأسبوع الجاري نزول شرائح جديدة لم تنزل إلى الشارع قبل هذا التاريخ، سواء من الشباب ومن ذويهم، وحتّى من الأجداد الذين يرافقون الأحفاد للتعبير عن غضبهم من الحرب الإجرامية، ومن الظلم الذي يطاول الشعب الفلسطيني، اليوم، كما في الأمس. وجاء رفع نائب حزب فرنسا الأبيّة سيباستيان دلوغو علمَ فلسطين في قاعة الجمعية الوطنية، ومعاقبته من رئيسة الجمعية يائيل برون بيفيه بعدم دخول قاعة الجمعية، مدّة أسبوعَين، عقاباً غير مستحق، ولا يتناسب مع الفعل، ليزيد من اشتعال التظاهرات في الشوارع، كما في الجامعات، رغم القمع البوليسي العنصري، الذي شهدت عليه قنوات الإعلام البديل، ووثّقته، ليردّ النائب "إنّ منعي، مُؤقّتاً، شرف وفخر لي، وسأكون مع المتضامنين، في الشارع بدلاً من قاعة الجمعية الوطنية".
رؤية علم فلسطين يرفع في قاعة الجمعية الوطنية أثارت النائب يائير حبيب، الصهيوني الوقح، وصديق نتنياهو، الذي يترصّد نوّاب حزب فرنسا الأبية ليتهجّم عليهم، ويتّهمهم بمعاداة السامية، وهو ما فعله، حالاً، عقب الخروج من القاعة، وهرولة الإعلاميين لتوثيق ما حصل فيها، فما كان من النائب الصهيوني إلا التحرّش بنائب من فرنسا الأبية يتحدّث للإعلام للتشويش عليه، ومنعه من الكلام، بغية إيصال شتائمه لهذا النائب، ولحزبه، بمعاداة السامية، إلى الجمهور الفرنسي عبر صور القنوات الموجودة. كما نجح المتضامنون مع الشعب الفلسطيني بمنع حضور شركات تصنيع السلاح الإسرائيلية لحضور أشهر معرض عالمي لبيع الأسلحة، وهو معرض أوروستار، الذي تنظّمه باريس، وهي ضربة كبيرة للشركات الصهيونية في مثل هذه المناسبة. إنّ رفع العلم الفلسطيني في الجمعية الوطنية، وتزايد المطالبات الضاغطة من جهات عدّة على الرئيس ماكرون ليحذو حذو النرويج وإسبانيا وأيرلندا والاعتراف بالدولة الفلسطينية، قد أقلقت نتنياهو، الذي يراقب، هو وعيونه المُنتشرة، تطوّرات الرأي العام العالمي، ويرى تدهور صورته وصورة حكومته الفاشية العنصرية بشكل سريع وواسع، وبالأخصّ في أميركا وفرنسا، ما جعله يطلب وبسرعة مخاطبة الشعب الفرنسي، وإلقاء كلمة في الكونغرس الأميركي.
عندما تلتحق "السوربون"، وطلّابها، بالتظاهرات، ويقاومون القمع، فهي علامة نوعية وكبيرة، وتغيّر جوهري وأساسي في الرأي العام الفرنسي
صُدم الفرنسيون الخميس الماضي من فضيحة قناتهم التلفزيونية "إل سي آي"، التي استضافت المُجرم نتنياهو، الذي طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال له، ودم الفلسطينيين الذين أحرقهم في رفح لا يزال ساخناً، لتقدّم له فرصة يخاطب فيها الفرنسيين 30 دقيقة، وليسمِعهم بروباغاندا وأكاذيب، يُسمِعهم إيّاها منذ ثمانية أشهر بطريقة صديقه النائب الصهيوني حبيب، الممجوجة والكريهة والفاشية. هذا الصديق الحميم لنتنياهو، الذي على الأغلب، وبإجماع كثيرين من المُتخصّصين والصحافيين، قد رتّب هذه المقابلة لإنقاذ صورة المجرم في فرنسا، ومنذ اللحظة الأولى، وبعد أول سؤال، اتضحت خريطة دعايته القائمة على استخدام مظلومية الهولوكوست، واتهام كلّ من ينتقد سياسته أو سياسة حكومته بمعاداة السامية، والمتظاهرون حول العالم من ضمنهم، مع ترك الصحافي، الذي يُقال إنّه من أبرع الصحافيين في المقابلات، لضيفه المدان أن يسترسل في منولوج مُرتّب مُسبقاً، أنكر فيه جرائمه، معتبراً أنّ قرارات محكمة العدل الدولية لا أساس لها، لأنّها لا تخصّه بل تخصّ دفاع الشعب عن أمنه، وادّعى أنّه زوّد الغزيين بمليون طن من الأغذية والأدوية، وفتح الطرق والمعابر، وأنزل عليهم الطعام، بينما هو يُجوّع الشعب الفلسطيني، ويمنع دخول الشاحنات، لإخضاع المقاومة، وقال، أيضاً، إنّه لا يقتل المدنيين، بل إنّ جيشه، الأكثر أخلاقية، يقوم بعمليات استهداف، متّهماً حركة حماس باستخدام المدنيين دروعاً بشريةً، وذلك من دون أن يقاطعه الصحافي أو يسأله عن المجازر المُوثّقة، للصحافيين والأطباء وتجريف المستشفيات بالكامل، التي تتكلّم عنها الأمم المتّحدة والمنظّمات المدنية الدولية، وعن قتله أكثر من 35 ألف فلسطيني، غالبيتهم أطفال ونساء، ولا عن التعذيب ومعسكرات الاعتقال، التي كشفت عنها صحيفة الغارديان، وفي كلّ سؤال مُتّفق عليه مُسبقاً، كما بدا، يلتفّ نتنياهو على السؤال، ليشبّه ما يجري بالحرب العالمية الثانية، ويقارن نفسه بتشرشل وديغول، وقادة "حماس" بالجنرالات الألمان، والأكثر تبجّحاً، تشبيهه مجزرة رفح بعملية الإنزال الأميركي في النورماندي، وهنا، قال له الصحافي: "لكنّ غزّة ليست أرضك"، ليردّ نتنياهو بالقول: "لقد خرجنا منها، وتركنا كلّ قواعدنا فيها، لكنّ "حماس" لا تريد السلام". وعاد ليكرّر أكاذيبه التي نشرها في 7 أكتوبر (2023)، لينتهي بما قال إنّ صديقه النائب مائير حبيب ترجمه له، وقاله بالفرنسية: "انتصارنا هو انتصاركم، إنّه انتصار إسرائيل على معاداة السامية، انتصار اليهودية المسيحية على البربرية، إنّه انتصار لفرنسا، إذا خسرتم خسرنا، وإذا ربحتم ربحنا، انتصاركم انتصارنا".
لكنّ الرياح جاءت بما لا تشتهي سفن الجزّار الإرهابي، إذ حتّى قبل الاستماع لأكاذيبه، وحال انتشار خبر المقابلة التي تبثّ مساءً، خرجت تظاهرات شبابية غاضبة، بدعوة من المُرشّحة الفلسطينية الأصل للانتخابات الأوربية ريما حسن، اتّجهت إلى أستوديوهات القناة مندّدةً ترفع شعارات "إسرائيل قاتلة" و"ماكرون متواطئ" و"نتنياهو إلى المحكمة" و"تحيا فلسطين" و"المجد للمقاومة وللشعب الفلسطيني" و"عار على الإعلام المتواطئ"، بل إنّ التنديد جاء بشكل واسع من الصحافيين والإعلاميين والسياسيين والمُتخصّصين، وضمنهم المتوجّسون من العقوبات، وامتلأت مواقع الإعلام البديل وقنواته، التي انتشرت بكثرة، ولها ملايين المتابعين، بإدانة دعوة جزّار ومُجرم حرب، ومُجرم ضدّ الإنسانية، بعد اقترافه هذه الجرائم كلّها، ولم يكن محتوى التعليقات على الفيديو الذي نُشِر إلا أشدّ ضراوة ضدّ الإعلام الذي سمح لهذا المُجرم بمخاطبة الشعب الفرنسي، وكثيرون هم من كتبوا "أشعر بالعار من بلدي ومن إعلامه الذي يمتلكه مليارديرية متواطئون في جرائم الحرب هذه".
أراد المجرم نتنياهو تلميع صورته، لكن، وبدل أن تُجمّل المقابلة معه في التلفزيون الفرنسي صورته، أصبحت مثل القشّة التي قصمت ظهر البعير
أمّا رئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، باسكال بونيفاس، فقد نشر فيديو بعنوان "جوابي على نتنياهو"، قال فيه مُوجّها الكلام إلى نتنياهو: "لا سيّد نتنياهو، انتصارك ليس انتصارنا، إنّه العكس تماماً، نحن لسنا مع رؤيتكم في تصادم الحضارات؛ الأخيار من جهة والأشرار من الجهة الأخرى. بموقفكم هذا تشجّعون معاداة السامية، إنّكم تضعون أمن الفرنسيين والعالم في خطر، إنّكم لا تريدون السلام، بل تريدون الحرب. أنت ووزراؤك اليمينيون العنصريون، الذين يرفضون السلام، تغذّون الإرهاب. حان الوقت لتتوقّفوا". وفي موقع إخباري مُهمّ لوحِقَ صاحبه الصحافي من الصهاينة سنوات حتّى تجنّب المواجهة معهم، عاد بونيفاس ليقول: "لم يعد أحد يخاف من اتهامه بمعاداة السامية في هذا البلد"، وهي جملة خطيرة وكبيرة، في ظلّ الأحداث الجارية. إذ كان من المستحيل أنّ يُصرّح أو يكتب صحافي أو كاتب أو فنان مثل هذه الفِكَر من دون أن يتم اسقاطه في الحال، مختتماً كلامه بـ"الرياح تغيّر اتجاهها". أمّا الكاتب المعروف فردريك لوردون، فقد التحق بطلاب جامعة السوربون المتظاهرين، الذين أضربوا احتجاجاً على قمع الشرطة لطلّاب معهد العلوم السياسية، فأقاموا خيمهم داخل قاعة كبيرة من قاعات الجامعة، وقال لهم "استمروا. أنتم ضمير العالم اليوم، ومن يقتل الشعب الفلسطيني ويدعم قتله ليسوا إلا مُختلّين عقلياً". وعندما تلتحق "السوربون"، وطلّابها، بالتظاهرات، ويقاومون القمع، فهي علامة نوعية وكبيرة، وتغيّر جوهري وأساسي في الرأي العام الفرنسي، يؤشّر على جيل توهّم كثيرون منّا أنّه مُبتعد عن الشأن العام، كره السياسة وألاعيبها، لكنّه برز فجأة بعد "7 أكتوبر" في أجمل وأرقى تجلّياته، لم يرَ العالم منذ الحرب العالمية الثانية تضامناً وتظاهراتٍ في أرجاء المعمورة في هذا المستوى من الوعي، ولا في مستوى هذه المقاومة لقوّات الشرطة ولسياسة الدولة، ولا من حيث الصبر وإبداع وسائل مختلفة لإنجاح تضامن عالمي شبابي مع غزّة، ومع قضية الشعب الفلسطيني، وأبطال مقاومته، الذين لولاهم لما شاهدنا هذه المناظر حول العالم، ولم نر "تغيّر اتجاه الرياح" في زمننا هذا.
أراد نتنياهو تلميع صورته، التي تلّطخت بالدماء في كلّ شوارع وعواصم العالم، لكن، وبدل أن تُجمّل هذه المقابلة صورته، أصبحت مثل القشّة التي قصمت ظهر البعير، إذ إنّ عملية التجميل، التي أراد الافتخار بها، قد فشلت، ليخرج منها مذموماً، وليصل وسم "كلّ العيون تتّجه إلى رفح" إلى أكثر من ثلاثين مليون مشاهدة، وأصبح موضوع الساعة للقنوات الإعلامية العالمية، ومن ضمنها المحايدة.