هل الإعلام الأميركي السائد مستقل فعلا؟
من يتابع تغطية الإعلام الأميركي التقليدي أو السائد (Mainstream Media)، المرئيِّ منه والمسموع والمقروء، الاجتياح الروسي أوكرانيا يخرج بانطباع أنه إعلام ينطق نيابة عن الأجندة الرسمية للولايات المتحدة في هذه الأزمة الدولية، أو أنه في خدمة تلك الأجندة التي تُشيطن روسيا، وتقدّمها عدواً متوحشاً معتدياً، في حين جعلت من أوكرانيا قصة صمود وبطولة وفداء. طبعاً، ما سبق لا يعدم استثناءات، ولكن التيار الغالب هذا وصفه. وإذا كان الواقع كذلك، فإن هذا يطرح سؤالاً مركزياً بشأن حقيقة استقلال الإعلام الأميركي عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية لواشنطن وأجنداتها العالمية الكبرى؟
موضوعياً، لا يمكن تبسيط الإجابة هنا، فهي لا تدخل في معادلة اللونين الأبيض والأسود، فالإعلام الأميركي يملك من الأدوات والآليات ما تمكّنه، لو أراد، من الحفاظ على قدرٍ واسع من الحيادية والموضوعية والنزاهة، خصوصاً لناحية الاستقرار والاستقلال المالي. إلا أن ذلك لا يعني أنه ينفكّ كلياً عن الأجندة السياسية الخارجية العليا للولايات المتحدة، كما قد يجد هذا الإعلام نفسه مضطراً لمراعاة المشاعر الشعبية العارمة في لحظات تاريخية فارقة. رأينا ذلك في أعقاب هجمات "11 سبتمبر" (2001)، عندما تحوّل الإعلام الأميركي إلى مصدر تحريض على الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، ولم تكن النزاهة والحيادية والموضوعية ضحاياه الوحيدة، إذ شملت قائمة الضحايا، أيضاً، بناء الأطر الإدراكية، بل والحقائق نفسها. وعلى هذا الأساس، ثمَّة انقسام بين الخبراء والأكاديميين حول الدور الحقيقي الذي تلعبه وسائل الإعلام الأميركية الكبرى في السياسات الخارجية للولايات المتحدة، أو في خدمتها.
يرى تشومسكي أنّ وسائل الإعلام الأميركية السائدة شريكة ومتواطئة في الأجندة الإمبريالية وفي خداع الجماهير
بالإضافة إلى الكيفية التي يغطّي بها الإعلام الأميركي، راهناً، الاجتياح الروسي أوكرانيا، يُذَكِّرُ بعض الباحثين بقصة التقرير الذي نشرته صحافية أميركية اسمها جوديث ميللر، في صحيفة نيويورك تايمز، عام 2002، زَعَمَ وجود معلومات وأدلة عن امتلاك العراق، حينها، أسلحة دمار شامل. وكانت ميللر هذه معروفة بارتباطاتها باليمين الأميركي واللوبي الصهيوني، ومصدرها في ذلك التقرير ما زال مجهولاً، رغم أن الصحيفة أقرّت، عام 2015، أن ما جاء فيه لم يكن مستوفياً شروط النشر! الباقي تاريخ، إذ أقدمت إدارة جورج بوش الابن، بعد ذلك التقرير وغيره بأشهر، على غزو العراق وإسقاط نظام الرئيس الراحل صدّام حسين.
المفارقة في المثال السابق أن مصدر معلومات تلك التقارير الإخبارية كانت إدارة بوش نفسها! بمعنى أن الإعلام الأميركي لعب، حينها، دوراً مكملاً في ترسيخ كذب الإدارة، بحيث اكتملت الدائرة الكهربائية المغلقة هنا، فكان كل جزءٍ يساهم في شحن الأجزاء الأخرى في صيرورة تلفيق المؤامرة الخبيثة التي قادت إلى عدوان وحشي على العراق. وبالمناسبة، كان الرأي العام الأميركي الغاضب من هجمات سبتمبر 2001 جزءاً من تلك الدائرة المغلقة، من ثمَّ أعطى تفويضاً شعبياً كاسحاً للعدوان، حتى اكتشف الخدعة الكبرى، وبدأ يرى نتائجها في نعوش أبنائه وإصاباتهم البليغة وتداعياتها النفسية عليهم، فضلاً عن الاستنزاف الاقتصادي الرهيب لبلادهم.
الإعلام الأميركي جزء في منظومة الدفع بأجندة النظام العالمي الذي تتوخاه الولايات المتحدة
بناء على ما سبق، نجد المفكر اليساري الأميركي، نعوم تشومسكي، يذهب إلى أبعد مما يقول به بعض الأكاديميين، مثل لورانس ليفنغستون، إن وسائل الإعلام الأميركية، وإنْ كانت محايدة، إلا أنها تنقل آراء النخبة في السياسة الخارجية. بالنسبة لتشومسكي، وسائل الإعلام الأميركية السائدة شريكة ومتواطئة في الأجندة الإمبريالية وفي خداع الجماهير، وهو يرى أنها تمارس هذا الدور عبر دمج وتقديم من يمثلون قناعاتٍ معينةٍ في الهياكل المؤسّسية للمجتمع الواسع بمعناه العام.
هل هذا يعني أن الإعلام الأميركي السائد مفتقد للنزاهة والحيادية والموضوعية دائماً؟ الإجابة: بالقطع لا، وهو، في جلِّه، إعلام احترافي ومتميز. ولكنه ليس فوق الشبهات والتحيزات عندما يتعلق الأمر بالهيمنة الأميركية عالمياً، وما تقاربه واشنطن على أنها مصالح قومية عليا لها. أيضاً، هذا لا يعني أنه ليس من حق وسائل الإعلام، أميركية أو غيرها، أن تنحاز لموقف على أرضية موضوعية، فقد يكون الحياد حالة تواطؤ، وهو أمر قدّم الكاتب شرحاً له في مقال سابق في "العربي الجديد" (18/2/2022). المشكلة هي عندما يفقد الإعلام حياديته، لا لصالح الموضوعية، ولكن لصالح التواطؤ والنظر بعين واحدة. مثلاً، في السياق الأوكراني، روسيا معتدية، ولكن أميركا وبعض الدول الأوروبية الكبرى متورّطة في إذكاء نيران هذه الحرب كي تضعف روسيا على رقعة الشطرنج الأوكرانية (راجع مقال: "رقعة الشطرنج الأوكرانية"، 10 /12/2021). ينطبق الأمر نفسه على غض جُلِّ الإعلام الغربي السائد الطرف عن الجرائم التي ترتكبها أميركا أو غيرها من حلفائها، كما إسرائيل، وهي التي لا تقلّ فظاعة عن جرائم روسيا.
باختصار، الإعلام الأميركي السائد جزء أساسيٌّ في منظومة الدفع بأجندة النظام العالمي الذي تتوخّاه الولايات المتحدة، وهو يلعب دوراً مركزياً في تنميط الوعيِّ الشعبي الأميركي بهدف دعم سياسات النخب الحاكمة، سياسية وعسكرية واستخباراتية وأمنية وصناعية وفكرية وإعلامية. وهو قد ينقلب على سياسةٍ ما، كما حصل في حرب فيتنام في منتصف القرن الماضي، ولكن ضمن المصالح الأميركية ذاتها، وربما انعكاسا لنقاشات وخلافات داخلية.