هل امتلك العرب زمام القضية الفلسطينيّة؟
كشف التوصّل إلى اتفاق الهدنة في قطاع غزّة بين إسرائيل وحركة حماس عن دور عربي مهم قامت به قطر ومصر، والأردن بدرجةٍ ما، بعد أن ساد اعتقاد أن العرب لن يكونوا مؤثرين في تطورات الصراع في فلسطين، نتيجة هيمنة إيران وتأثيرها على المقاومة.
وكثيرا ما كان العامل الإيراني مقلقا لدى قطاعات عربية كبيرة، إلى درجة أن بعضهم توقّع أن انتصار "حماس" سيتبعه تغوّل إيراني في المنطقة على حساب شعبي سورية والعراق، كما أن هزيمتها ستعني هزيمة للشخصية العربية ولقيمة الإنسان العربي، حيث ستسود الرواية الصهيونية عن الصراع التي يتحوّل العربي بموجبها إلى مجرّد جبان وغادر وغير قادر على خوض الحروب العصرية.
سيصبّ انتصار "حماس" في الرصيد العربي، وإذا كانت قطر ثم مصر والأردن، قد لعبت أدورا مؤثرة في غضون هذه الحرب، فإن هذه الأطراف تحمل تفويضا عربيا عاما، مع اختلاف على تفاصيل بسيطة، والأهم أنها تريح رأيا عاما عربيا يرى إدارة هذه الأطراف الثلاثة للمفاوضات الجارية مع أميركا وإسرائيل، والمخرجات الناتجة عن هذه المفاوضات والمتمثلة، حتى اللحظة، باتفاق الهدنة وإدخال المواد الإغاثية لغزّة، ومن ثم إمكانية البناء على هذا الاتفاق.
ثمّة فارق كبير بين أن يمسك العرب بزمام الأمور ويديروا المسارات الفلسطينية في المرحلة المقبلة وأن تكون أطراف خارجية، وتحديدا إيران هي الفاعل الأساسي، إذ ليس خافيا أن إيران تدير مشروعا كبيرا في المنطقة لخدمة أهدافها الجيوسياسية، وهو ما بات يدركه الجميع في المنطقة، في حين أن للجانب العربي اعتبارات مختلفة، كما أن قضية فلسطين مندمجة بشكل لا فكاك منه في المصالح والأمن العربيين، ما يجعل أي تحرّك عربي غير مسبوغ بأهداف ومشاريع باستثناء تحقيق المصلحة العربية العليا.
الوحدة الوطنية الفلسطينية أمر بات مطلوبا اليوم لتخطّي تداعيات نتائج الحرب المدمّرة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزةّ
هذا التحوّل والتغيّر في الأدوار، لصالح الطرف العربي، على حساب إيران، التي حاولت عبر تكتيكات معينة فرض نفسها مرجعيةً وحيدة، من خلال إثبات أنها الطرف الخارجي الوحيد المساند غزّة وأهلها، رغم محدودية تأثير أفعالها، كسرته بهدوء الدبلوماسية العربية التي تملك أوراقا عديدة أكثر فعالية في العلاقات مع الغرب، تمكّنها من ردع إسرائيل وإجبار واشنطن على سماع صوتها.
لا يعني هذا أن الحراك التفاوضي العربي سيشكّل انقلابا على أدوار الفاعلين في الموضوع الفلسطيني، بمعنى إقصاء "حماس" وتحويل فعالية السلطة الفلسطينية، بتركيبتها الحالية، هذا أمر لم يعُد مطروحا، في ظلّ طرح موازٍ يتمثّل بإمكانية إيجاد صيغة في المرحلة المقبلة تدعم الوحدة الوطنية الفلسطينية، وهو أمر بات مطلوبا اليوم لتخطّي تداعيات نتائج الحرب المدمّرة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزةّ، وما سيتبعها من مشاريع إعادة الإعمار والبحث عن حلول سياسية مستدامة للقضية الفلسطينية.
في أثناء الحرب، جرى طرح خيارات عديدة يمكن للأطراف العربية التعامل بها لمناصرة غزّة، من ضمنها كان استخدام سلاح النفط والغاز، مثلما حصل في حرب أكتوبر (1973) للضغط على الفاعلين الدوليين لإجبار إسرائيل على وقف الحرب، لكن هذا الخيار لم يحقّق إجماعا عربيا انطلاقا من تأثير هذا الخيار على العرب أنفسهم في تمويلهم للمشاريع التنموية، والأهم من ذلك تغيّر خريطة المستهلكين للطاقة العربية، حيث باتت آسيا، وليست أميركا، هي المستهلك الأساسي، كما أن أوروبا، ورغم أنها تعتمد على النفط والغاز العربي، إلا أن فعاليتها الدبلوماسية منخفضة إلى حد بعيد، لذا توجب البحث عن خيارات وأوراق ضغط أخرى.
المؤمّل البناء على الهدنة بالتعاون مع الطرف الأميركي لتحقيق وقف نهائي للحرب، لما فيه من مصلحة للجميع
انطلاقا من هذا المعطى، كان على العرب أن يجدوا أوراقا مؤثّرة وفاعلة في إدارتهم التفاوض، واستفادوا من عاملين مهمين: الأول، حاجة الإدارة الأميركية للتوصل إلى شكل من تخفيف حدّة المعارك، والبحث عن فرصة تظهر من خلالها مدى فعاليتها، بما يصبّ في رصيدها في الانتخابات المقبلة، ورغبتها في عدم التورّط في حربٍ إقليمية موسّعة، وكذلك الاحتفاظ بمصالحها في العالم العربي، بعد أن لفت دبلوماسيون وخبراء استراتيجيون عديدون إلى أن الاستمرار بالظهور بمظهر الداعم المطلق لإسرائيل ستنتج عنه تداعياتٌ خطيرة، من ضمنها خسارة التأثير في العالم العربي لجيل أو أكثر.
العامل الثاني، التلويح بورقة اتفاقيات السلام والتطبيع مع إسرائيل، وقد بدا ذلك من خلال الانزعاج الذي أبدته دول عربية مطبّعة أو التي في طريقها إلى التطبيع مع إسرائيل من مواقف حكومة نتنياهو، وتعرّضها لضغوط شعبية، تدفعها إلى إعادة النظر في عملية التطبيع برمّتها، وخصوصا الأردن الذي صعّد مواقفه بطريقة ملحوظة، فضلا عن موقف السعودية الذي بات أقلّ اندفاعا للتطبيع في ظل هذه الظروف.
مؤكّد أن الحرب لم تنته بعد، ومن المحتمل أن تتجدّد لاعتبارات إسرائيلية داخلية، فالمعلوم أن الحكومات المتطرّفة، مثل الحكومة الإسرائيلية الحالية، تعطي الأهمية والأولوية لاستمرار تركيبتها وتوازناتها الداخلية خوفا من السقوط. لكن، رغم صدور تقديراتٍ عن مؤسّسات رصينة (ستانفورد) بإمكانية تجدّد الحرب بشكل أكثرٍ شراسة، حيث تسمح الهدنة لأطرافها، إسرائيل و"حماس"، بإعادة ترتيب أوضاعهما والتمركز بشكل صحيح، بالإضافة إلى ترميم القدرات وبناء تقديرات مواقف تُناسب الواقع الحالي، يجب ألا تتوقّف الجهود العربية، والمؤمّل البناء على الهدنة بالتعاون مع الطرف الأميركي لتحقيق وقف نهائي للحرب، لما فيه من مصلحة للجميع.