هل تفسّر "نظرية اللكزس" حريق الخرطوم؟
بعد أن تضع الحرب في الخرطوم أوزارها، يصير أمام الباحثين والأكاديميين في مجالات الاجتماع والأنثربولوجيا واجب تحليل تفاصيلها، المختلفة عن تفاصيل أي حربٍ أخرى شهدها السودان. ليس ذلك فقط بسبب أن ساحة المعركة كانت الخرطوم، لأول مرة في تاريخ السودان الحديث، وإنما لطبيعة ما جرى.
لم تقتصر الحرب على الاستهداف العسكري، ولا على خطوط الإمداد أو المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، وإنما بدت، في جانب كبير منها، موجّهة ضد المواطن الذي أصبحت مساحاته المدنية من مستشفيات وبيوت وشركات ومراكز خدمات أماكن لسكن المليشيا المهاجمة وتحصيناتها. وبتفعيل مخطط "الذوبان في النطاق المدني"، الذي اتخذته المليشيا المتمرّدة بهدف تضييق نطاق الضربات الجوية وجعل كلفتها الإنسانية عالية، وجد الأهالي أنفسهم في قلب المعركة، ليس فقط لأنه جرى اتخاذهم دروعاً وحماية، ولكن لأنهم أصبحوا عرضةً للسلب والنهب وهدفاً لأعمال تخريبٍ لم تقتصر على المنازل، وإنما تجاوزتها لتشمل الأسواق والمحال التجارية والممتلكات العامة.
يمكن للمرء أن يتفهّم السرقات التي تحدُث بسبب غياب الأمن، سواء من المواطنين أو حتى من قوات الدعم السريع التي قطع الجيش خطوط إمدادها، وإن أقصى درجات الفقر والجوع لا تبرّر التوسّع في السرقة، ناهيك عن التخريب، لكن ما يحدث أكبر من ذلك. والسؤال في أذهان كثيرين: لماذا، بعد سرقة شركة ما أو متجر يتم حرقُه أو تخريبُه؟ لماذا لا يكتفي اللصّ، إن كان مجرّد لصّ، بأخذ ما خفّ وزنُه وغلا ثمنه، ليتجاوز ذلك إلى التصرّف وكأن هناك ثأراً بينه وبين صاحب المال يدفعه إلى الانتقام منه؟
بتفعيل مخطط "الذوبان في النطاق المدني"، الذي اتخذته المليشيا المتمرّدة بهدف تضييق نطاق الضربات الجوية وجعل كلفتها الإنسانية عالية، وجد الأهالي أنفسهم في قلب المعركة
مهما كانت أسباب الحرب، ومهما سرد المعتدون من دوافع للقتال ضد الجيش النظامي ومن يقودونه، يظل من الصعب تفسير الحرائق، التي طاولت مباني متعدّدة، كالجامعات والمحاكم ومكاتب الأراضي ومخازن الإمدادات الطبية وغيرها من الأماكن، الأمر الذي لا يمكن تشبيهه إلا بالحرائق التاريخية الكبرى والشهيرة كحريق القاهرة (1952)، الذي قضى على أجزاء واسعة من منطقة القاهرة البرجوازية العتيقة.
ما ساعدني على تجميع الأفكار كان منشوراً كتبه القيادي في الحزب الناشئ (تيار المستقبل) معمّر موسى، حين نقل منشوراً لأحد المواطنين يشتكي فيه من ضياع سيارته الجديدة من ماركة "لكزس"، ثم يعلق (موسى) بأنه يتمنّى أن لا يتم إيجادها، قبل أن يتساءل قائلاً ما معناه: كيف يمكن لشخصٍ أن يمتلك مثل هذه السيارات في بلادٍ يموت كثيرون من أهلها جوعاً؟
لم يكن المنشور مجرّد كلمات عفوية، وإنما كان واضحًا أنه يرمز لقناعة عند صاحبها، وخصوصا أنه أسهب في عدة كتابات لاحقة في التأكيد على رؤيته تلك بأسلوبٍ حاول أن يجعله جامعاً بين العلمية والمنطق الشيوعي، الذي لا يرى بأسًا في "الحقد الطبقي"، بل يعتبر أنه "ميزة مساعدة على التغيير الاجتماعي". كان مضمون عبارات موسى، الذي كان امتداداً لنقدِه المتواصل ما يسمّيها "القوى الإرثية" التي "أحكمت قبضتها على الدولة والسوق" لا يختلف، في جوهره، عمّا تفوّه به أحد جنود المليشيا ببساطة وهو يدخل بيتًا راقيًا في الخرطوم متجوّلًا فيه بسلاحه وكاميرته وسمح لنفسه بالاستحواذ على كل ما وجده، قائلاً إنه ليس من العدل أن يمتلك شخصٌ مثل هذا البيت في وقتٍ لا يجد فيه أهل الأطراف المأكل والمشرب.
انطلاقاً مما سبق، أطلقتُ على هذه الحالة الجديدة من الحقد الطبقي والاجتماعي "نظرية اللكزس" وعرّفتها على أساس أنها امتلاك قناعة راسخة بأن كل من امتلك ثروة هو بالضرورة لصّ أو سياسي فاسد. ينتج عن هذا استحلال الإضرار بهذه النخبة الميسورة مادياً واستحلال أخذ كل ممتلكاتها، وهو المنطق الذي تشترك فيه المليشيا، التي تسمّي عملياتها للمفارقة "معركة الديمقراطية" مع العصابات الإجرامية المتفلتة التي انتهزت الفوضى والفراغ العام، لتصبح أكثر قدرة وفعالية، خصوصا بعد حصولها على أسلحة متقدّمة وتنسيق لا يخفى مع من يسهّلون عليها مهمة الدخول إلى الأحياء والمباني.
يزدهر الخطاب العرقي وتعتمد عليه المليشيا الغازية في التحشيد واعدة المنضمّين والمقاتلين إلى جوارها بحصولهم على مغانم كثيرة وبتبدّل أحوالهم عبر مساعدتهم على الترقّي
لنظرية "اللكزس" أوجه كثيرة وتفسيرات متعدّدة، فيمكنها أن تشرح لنا مثلًا صعود الاستقطابات العنصرية، فبالنسبة للمؤمنين بهذا الخطاب، لا يقتصر الأمر على وجود لصوصٍ كبارٍ استمتعوا بأموال الشعب والدولة، وإنما يتعدّاه لانتماء هؤلاء اللصوص إلى عرقياتٍ معينةٍ كانت تستمتع بالسلطة والثروة منذ الاستقلال. ويزدهر الخطاب العرقي وتعتمد عليه المليشيا الغازية في التحشيد واعدة المنضمّين والمقاتلين إلى جوارها بحصولهم على مغانم كثيرة وبتبدّل أحوالهم عبر مساعدتهم على الترقّي من خلال إحداث انقلاب في السلم الاجتماعي.
الانتقام وتعمّد الإذلال والتعامل بحقد مع الممتلكات الخاصّة من تفاصيل لم يكن لها داعٍ لو كان الأمر يقتصر، كما تصفه نظرة الإعلام القاصرة، على صراعٍ بين جيشين. إذا كان بإمكان الصراع على السلطة أن يفسّر احتلال وتمدد الحرب للشوارع الرئيسة وللبيوت المطلّة عليها أو الواقعة قرب مناطق استراتيجية، فإنه لن يفسّر الاعتداء على الأحياء القديمة والعريقة في الخرطوم إلى درجة إجبار أهلها على الخروج والنزوح. وذلك لا يفسَّر إلا في إطار الخطاب الذي يرى أصحابه أنهم أحق بالسكن في الخرطوم وأن أحياء العاصمة ليست ملكًا لأحد، بما في ذلك الذين ظلوا يسكنونها منذ مئات السنين، وحان وقت استبدالهم.
الاستحواذ على مقتنيات ثمينة أو البحث عن الأعداء أو"الفلول" لا يفسّران مشهد حريق جامعة خاصة أو تدمير مكتبة، بقدر ما يفسّر ذلك منطق تخريب المؤسّسات التي تمثل "بزنس النخبة"، أو منطق "الانتقام الطبقي الجماعي" من أولئك الطلاب ومن عائلاتهم المقتدرة التي استطاعت دفع مبالغ كبيرة في سبيل تطوير أبنائها. تلك الأموال، وفق منظور أصحاب "نظرية اللكزس"، إنما جاءت على حساب الملايين ممن يعيشون على رصيف الحياة.