هل تنزلق اللعبة في المشرق إلى الحرب؟
تُجمع معظم التحليلات والتقارير وآراء الخبراء على أن ما يدور الآن في المشرق العربي بين إسرائيل ومحور إيران لن يفضي إلى حرب في قادم الأيام، ولن يؤسّس لمسار جديد ينطوي على تفاعلات صراعية أكبر حدّة من التي يمارسها الطرفان تجاه بعضهما، بل إن ما يُسمى صراعا بينهما بات مجرّد حوار نمطي من السهل قراءة مضامينه وتوقّع مآلاته.
ينبني ذلك على معطياتٍ سابقةٍ ومؤشّرات راهنة، تثبت جميعُها أن الطرفين باتت لديهما قدرة على التعايش مع نوع متدنٍّ من الصراع، حتى إنه باتت لديهما الخبرة في استثماره وتوظيفه محليّا وإقليميا، كما لديهما القدرة على هضم مخرجاته واستيعابها، في سياق مشاريعهما الجيوسياسية، إلى درجة أن الناظر إلى مشهد هذا الصراع سيكتشف أن الطرفين اللذين يحرّكان اتجاهات الأحداث في المنطقة، ويسيطران على التفاعلات الجارية على سطح المشهد وأعماقه، لا يدفعان أثمانا كبيرة لقاء ذلك، وهما مرتاحان لآليات عملهما والنتائج التي تؤول إليها الأوضاع في المنطقة.
تشهد على ذلك المخرجات التي تنتج عن اللعبة التي تديرها إسرائيل وإيران في المنطقة، تمزق النسج الوطنية والانهيار القومي الحاصل في المحيط العربي، فضلا عن تراجع القيم، مقابل صعود الطائفية والمناطقية والتطرّف. تصبّ هذه الحصائل في خانة مصالح تل أبيب وطهران، حيث تطمئن إسرائيل لمئة عام مقبلة على أمنها، فمن أين لهذه المجتمعات إنتاج أشكال من المقاومة لمشاريعها؟ بل ربما تصبح إسرائيل بالنسبة لها طرفا مقبولا وحليفا مستقبليا. أما إيران، فإن شرط تمدّد نفوذها الجيوسياسي مربوطٌ بدرجة كبيرة باستمرار حالة الفوضى والضياع في بلدان المشرق العربي.
الممكن والمحتمل اليوم هو الانزلاق إلى الحرب وليس الذهاب إليها
على ذلك، لا تغدو الجولات الصراعية بين كل حين وحين سوى محاولاتٍ لتنشيط هده الحالة، فضلا عن ضمان استمرارية مكوّنات المنطقة في الدوران في الحلقة المفرغة التي صنعها الخارجان، الإسرائيلي والإيراني، وهي المساحة التي لن تجد فيها شعوب المشرق لا الفرص لتشكيل مستقبلها ولا القدرة على السيطرة على حاضرها، ودليل ذلك أن هذه الشعوب باتت تئنّ تحت وطأة الجوع وثقل العوز المادي الرهيب، من دون أن تعرف كيف تخرُج من هذه المصيدة القاتلة التي وقعت بها.
إذا، كيف ستقود هذه المسارات إلى حربٍ تنهي القدرات التشغيلية لإيران وإسرائيل، أو أحدهما، على التحكّم بالمنظومة التي تُنتج لهما أرباحا جيوسياسية صافية بأثمانٍ بسيطة؟ هل من المتصوّر أن أحدا من صنّاع القرار في تل أبيب وطهران لم ينخرط بعد بهذه اللعبة حتى يتورّط في تأييد إشعال حربٍ بين الطرفين؟
يبقى ما سبق وجهة نظر ورؤية إلى الأحداث والوقائع من زاوية نظر محدّدة، تفسر جزءا من المشهد، لكنها غير قادرة على إيضاح كامل للصورة. وبالتالي، ربما يعطي الاعتماد عليها وحدها من دون اعتماد مقارباتٍ تفسيريةٍ أخرى، ولو من باب التجريب، صورة غير حقيقية. والأهم أنه قد يمنع أي إمكانية لرسم سيناريوهات مستقبلية واقعية لمآلات هذا الصراع وأشكاله المحتملة.
ما يدعو إلى ذلك أن الصراع في المنطقة مركّبٌ وينطوي على تعقيداتٍ هائلة، مركّبٌ بمعنى أنه يتكوّن من مجموعة طبقات، كشفت عنها أحداث العقد الأخير، فهو صراع طائفي طبقي مناطقي إقليمي دولي، بما يحتويه من اختلافاتٍ في القيم والرؤى المستقبلية وتصوّرات الحلول وشكل التسويات المحتملة. هذا الصراع شكّلته بدرجة كبيرة المشاريع الجيوسياسة التي تداخلت فيه وبلورته ثم اختطفته لصالح أجنداتٍ خارجية، والمشكلة أن هذه العملية رسمت ملامح مستقبل المنطقة بدرجة كبيرة ونوعية التوجّهات المجتمعية وشكل التفاعلات المحتملة بين البنى المجتمعية والاقتصادية والثقافية لعقود مقبلة. ونتيجة ذلك الانقسام العمودي الذي يسيطر على الواقع الاجتماعي في ثلاثة من الفواعل الإقليمية، سورية والعراق ولبنان، وبدرجة أقل في فلسطين. وثمّة مؤشّرات على بداية مسار انقسام عمودي في إسرائيل، ويبدو أن ترميم هذا الانقسام قد تجاوزه الزمن في بعض هذه البلدان، أو ربما أنها تتعرّض لتيارات تمنع توفر المناخات المناسبة لإجراء عملية الترميم. وتكمن خطورة هذا الانقسام في تحوّله إلى صيرورة لصناعة وقائع جغرافية حاضنة، عندها سيصبح الذهاب إلى الحرب حتميا، لكن ذلك قد يستغرق زمنا أطول وانخراطا أكثر كثافة من اللاعبين الخارجيين.
الصراع في المنطقة مركّبٌ وينطوي على تعقيداتٍ هائلة
على ذلك، الممكن والمحتمل اليوم هو الانزلاق إلى الحرب وليس الذهاب إليها. وثمّة فرق بين الأمرين، فالذهاب إلى الحرب يستدعي حسابات متأنية وتقديرا للموقف العسكري وللبيئة الإستراتيجية، وحساب الفرص والمخاطر، وهو ما لن تُقدم عليه تل أبيب وطهران في هذه الظروف، وتشكّل قدرتهما على التعايش مع المرحلة الحالية مناعةً ضد الذهاب إلى الحرب، لكن الانزلاق قد يحدُث نتيجة تقديراتٍ خاطئةٍ من أحد أطراف اللعبة، يجد الطرفان نفسيهما متورّطين في الحرب. وبعدها ستصبح كل استراتيجياتهم وتكتيكاتهم في ضبط الصراع غير صالحة للعمل، حيث ستفرض وقائع الميدان نفسها وبقوة، بما يعنيه ذلك من إضعاف لقدرة السياسيين في التحكّم بمسارات الحرب، مقابل صعود قوة العسكريين.
غالبا ما تتحكّم في الانزلاق إلى الحرب المناخات التي يتحرّك فيها صناع القرار، من نوع عدم استقرار النخب الحاكمة، وحالة الرفض لإدارتهم السياسات العامّة، وتقديراتهم المخاطر المحتملة، والضغوط التي يتعرّض لها صانع القرار، وهو مناخٌ متوفر حاليا في تل أبيب وطهران، ما يجعل، من الناحية النظرية، الحرب محتملة وواردةً في لحظةٍ ما في صيف المنطقة المقبل.