هل سلّم الفلسطينيون سلاحهم يوماً؟
... نعم، ففي حين غفلةٍ، سلّمنا نحن الفلسطينيين سلاحنا، وأعطيناه لعدوّنا بأيدينا، وقلّنا أمام وسائل الإعلام المحلّية والعالمية لن نحارب بعد اليوم، ولن نلجأ إلى العنف، وداعاً أيّها السلاح، فنحن عشّاق السلام، حدث ذلك في سبتمبر/ أيلول 1993، عشية توقيع اتفاقية إعلان المبادئ بين منظّمة التحرير ودولة الاحتلال (أوسلو). وقتها، صفّقنا من داخل السجون الإسرائيلية، وصفّق غيرنا من خارج السجون لرفيقنا المُحرّر من السجن، هشام الدسوقي، الذي أشرف على جمع بعض أسلحة المقاومين، وسلّمها للحاكم العسكري الإسرائيلي في خانيونس، وأمام وسائل الإعلام في تظاهرة سلمية تشهد على براءة ذمّة الفلسطينيين من حمل السلاح. فماذا كانت النتيجة؟
ظلّ العدو يُطوّر قدراته القتالية، وصواريخه الهجومية، وقنابله النووية، وظلّ يشحذ السكّين على صخرة الصمت، ليواصل قتل الفلسطينيين من دون توقّف، بل ظلّ يحاصر التجمّعات الفلسطينية، ويخنق أنفاسها، ويواصل اعتقال آلاف في السجون والمعتقلات. وواصل المستوطنون الصهاينة الاستيلاء على الأرض، بل وسّعوا مساحة المستوطنات التي كانوا يسيطرون عليها في غزّة والضفّة الغربية. وعلى سبيل المثال، قبل اتّفاقية أوسلو، كان المستوطنون يضعون يدهم على 23% فقط من أرض قطاع غزّة، وعشيّة توقيع اتفاقية القاهرة (4 مايو/ أيّار 1994) تفاجأ الفلسطينيون في قطاع غزّة، صباح اليوم التالي، بتمدّد سياج المستوطنات حتّى صار ملاصقاً لمخيم خانيونس. تضاعفت مساحة الأرض التي يسيطر عليها المستوطنون لتصير في لحظة 46% من أرض غزّة، هذا التوسّع العاجل والكبير لمستوطنات غزّة أدهش الناس، الذين حسبوا أنّ اتفاقية السلام ستزيل المستوطنات، فإذا باتفاقية القاهرة تعزّز الاستيطان.
ما حصل في غزّة من تمدّد سريع للمستوطنات حصل في الضفّة الغربية، وحصل عدم الالتزام الإسرائيلي بأي بندٍ من بقية بنود المرحلة الانتقالية للاتّفاقية، وكانت ستنتهي سنة 1999 بإقامة دولة فلسطينية، وحلّ القضايا المؤجّلة كافّة، كالقدس والأرض والمياه والاقتصاد واللاجئين والمستوطنات والحدود، ليدرك الفلسطينيون وقتها أنّهم وقعوا في فخّ "أوسلو"، وأمسوا عالقين في شرك المفاوضات الكاذبة، التي فضحتها مفاوضات كامب ديفيد 2000، وزاد الطين بِلّة اقتحام شارون المسجد الأقصى، لتتفجر انتفاضة الأقصى، ويعود الفلسطينيون إلى سلاحهم، حتّى سنة 2005، السنة التي صار فيها محمود عبّاس رئيساً، بعد لقائه في مؤتمر العقبة رئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون، وبحضور الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن)، والاتفاق على إنهاء الانتفاضة، والبدء في مفاوضات السلام من جديد.
عقب "أوسلو" ظلّ العدو الإسرائيلي يُطوّر قدراته القتالية، وصواريخه الهجومية، ليواصل قتل الفلسطينيين
في تلك الحقبة، التقى الرئيس عبّاس مع قادة التنظيمات الفلسطينية، واتفق معهم على وأد الانتفاضة، والتخلّي عن المقاومة، ونبذ العنف، ومواصلة مشوار السلام والوئام مع الصهاينة، لا سيّما بعد أن اتُّفق مع الإسرائيليين والأميركيين على توفير الغطاء المالي لاستيعاب المسلّحين الفلسطينيين كلّهم، الذين شاركوا في انتفاضة الأقصى، وأن تتوقّف إسرائيل عن ملاحقاتهم، وقد وافقت التنظيمات في ذلك الوقت على إنهاء الانتفاضة المسلّحة، ولجم السلاح، وتكميم فوّهات البنادق الفلسطينية، شرط البدء بترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، بما في ذلك إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير، وبناءَ على ذلك الاتفاق، شاركت تنظيمات فلسطينية كثيرة في انتخابات المجلس التشريعي مطلع 2006.
ولكنّ التلكُّؤ الإسرائيلي في تنفيذ الاتفاقات، بما في ذلك عدم إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين المعتقلين ما قبل توقيع اتّفاقية أوسلو، ونقض إسرائيل اتّفاقية عدم التعرّض لشباب الانتفاضة بالاعتقال، مع مواصلة التوسّع الاستيطاني في أرض الضفّة الغربية، واستمرار الجيش الإسرائيلي في استباحة الدم الفلسطيني، وعدم التزام الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بالاتفاق مع التنظيمات في كلّ ما يتعلّق بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني... ذلك كلّه فرض على الشعب الفلسطيني أن يعود ثانية إلى حمل السلاح، ومواصلة مشوار التصدّي للعدوان الإسرائيلي، ولا سيّما في قطاع غزّة، الأرض الفلسطينية التي استطاعت أن تتحرّر من سلطة الحاكم العسكري الإسرائيلي، واستطاعت أن تتحرّر من سلطة التنسيق الأمني، وراحت تبني قدراتها القتالية في مرّ السنين، حتّى غدت قادرة على مباغتة الجيش الإسرائيلي في 7 أكتوبر (2023)، ومن ثمّ مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزّة أكثر من 11 شهراً، بكلّ بسالة وعنفوان، وقدرات أربكت حسابات أقوى جيوش المنطقة، مدعوماً بآلة الحرب الأميركية، بل أربكت حسابات السياسة الإسرائيلية والأميركية في المنطقة العربية كلّها.