هل سيرتدي السنوار كوفية؟
من بين النجوم التي أضاءت سماء غزّة خلال العدوان الوحشي أخيرا على القطاع المحاصر، سطع نجم القائد في حركة حماس، يحيى السنوار، وتلألأ أكثر غداة وقف إطلاق النار، تاركاً لنا، نحن معشر الكتاب، انطباعاً قوياً، إلى أن يثبت العكس، أنه القائد الحقيقي لهذه المعركة التي لم تضع أوزارها بعد، وذلك بدلالة أمرين: أنه كان ثاني اثنين مستهدفين طوال أيام القصف الجوي المركّز على الأحياء والمقرّات والأنفاق، وخروجه الى العلن فوراً، وحديثه المطوّل إلى وسائل الإعلام، بما يشي به هذا الحديث من تحوّلات أولية.
طوال الحرب الوحشية هذه، كان اغتيال السنوار هدفا مركزياً معلناً لقادة الاحتلال، سعياً منهم وراء "صورة نصرٍ" تتيح لهم إنهاء القتال، على أرضية زعم ملفّق بإحراز فوزٍ غير مشكوكٍ فيه، الأمر الذي يبدو أن الرجل قد أدركه مبكراً، فخرج إلى العلن قبل أن ينقشع غبار الحرب، سار على قدميه بين الناس، ورفع يده بشارة النصر، ليقلب الصورة المشتهاة إسرائيلياً، رأساً على عقب، ويصنع بدلاً منها مشهداً يفيض بالتحدّي، الموظّف جيداً جداً في كسب معركة الصورة التي تُعادل في أهميتها معركة إطلاق الصواريخ على تل أبيب.
ومع أنه ثرثر كثيرا، وبدا انفعالياً، إلا إن إطلالته المتحدّية صنعت، في حدّ ذاتها، موقفاً يُحسَب له، وأضافت قيمة معتبرة إلى رأس المال الرمزي الفلسطيني المتراكم، قيراطاً فوق قيراط، على مدى عقود مديدة، بنى خلالها الفدائيون والمناضلون والقادة الكبار أرضية متينة لمواصلة الكفاح المجيد، وجلب التأييد لشعبٍ ظل يقاوم بشجاعة، ينهض، مرةً إثر أخرى، من تحت الركام مرفوع الرأس، إلى أن حقق هذا التحوّل الواسع في الرأي العام، ووصل أخيرا إلى المعقل الأميركي، الذي كان حتى الأمس حكراً على اللاعبين الإسرائيليين.
أعاد ظهور قائد غزّة بعد وقف الحرب، وعلى الرغم من حديثه فيما يلزم ولا يلزم، إلى الذاكرة الغضّة صورتين ثمينتين لم تسقطا من الذاكرة الفلسطينية للزعيم الراحل ياسر عرفات، الأولى من غزو بيروت عام 1982 عندما كان أبو عمّار، وهو المستهدف رقم واحد، يجول بين مقاتليه تحت القصف وأمام الكاميرات، ليبثّ خطاب الصمود، ويضيف مشهداً باذخاً إلى سردية رأس المال الرمزي الفلسطيني. والثانية كانت لدى إطباق دبابات شارون على مقرّه في رام الله، عندما تلى رسالة، على ضوء شمعة، بدت وكأنها كلمة وداعية: "يريدونني قتيلاً أو أسيراً أو طريداً، وأنا أقول لهم شهيداً شهيداً شهيداً".
بعيداً عن المبالغات المندرجة في سياقات الحرب النفسية، بما في ذلك محدودية الخسائر في أنفاق يبلغ طولها 500 كيلومتر، فقد بدا السنوار، بما له من ميزاتٍ وما عليه من محدودية في مهارات الاتصال ومخاطبة الرأي العام، متدثراً ثوب عرفات، ومحاكياً له، حين تحدّى، وهو الأسير المحرّر، وزير الحرب الإسرائيلي، قائلا لهً، إنه يفضّل أن يكون شهيداً على أن يتوارى في سرداب، وهو موقف قائدٍ حقيقيٍّ يعي بلاغة هذا الظهور في تلك اللحظة الحرجة، يجازف بدمه، لكسب معركة الصورة، التي من شأنها تعميق الحسّ لدى أعدائه بالفشل، وتقويض ادّعاء تحقيق نصر لم يصدّقوه هم.
في الجانب المتمم لصورة السنوار العرفاتية، ومع التحفّظ على تظهيره صورة جيش غزيٍّ مكافئٍ لأقوى جيوش المنطقة، كان لافتا، بحق، خطاب قائد "حماس" المترفع عن الحسابات الصغيرة، المتفهم للواقع المتاح (دولة على حدود 1967 وفق قرارات الشرعية الدولية)، والمتصالح أيضاً مع رفقاء المسيرة، بقوله "نم قرير العين، أيها القائد أبا عمار، إن أبناءك في كتائب القسام يواصلون على دربك المسار"، وهو ما يشي، كذلك، بتحوّلٍ ما لدى الحركة المجاهدة، يماثل النهج الواقعي، يشارف الاعتدال، ويشابه التحوّل التدريجي الذي قاده عرفات في مدار الحركة الوطنية.
خلاصة القول، ظهور السنوار، بروحية عرفات البراغماتية، وبقدرٍ طيّبٍ من شخصيته القيادية، بدون بدلة الفوتيك والكوفية، كان فصلاً مهماً من فصول هذه المواجهة المستمرّة مع الذئاب المتعطشة للانتقام. كما أضافت معركة الأحد عشر يوماً، بانتصارها السياسي والأخلاقي الباهر، مدماكاً جديداً في بنية الرمزيات الفلسطينية، وزادت من قوة الدفع الذاتي القادرة على استنهاض الهمم، وتزخّم العنفوان أكثر، ورفع المعنويات، ناهيك عن إثراء الرواية التاريخية الفلسطينية بصفحاتٍ جديدةٍ مشرقةٍ، وبطولات شعبٍ أطلق ثورة من فوق بساط الريح.