هل قرّرت إسرائيل التخلّي عن أسراها؟
الرفض الإسرائيلي العلني للمطالب التي قدمتها حركة حماس بشأن صفقة تبادل الأسرى سببه الأساسي ليس الشروط التي وضعتها "حماس" فحسب، بل لأن القرار بشأن صفقة التبادل يمكن أن يشمل مصير الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة منذ أربعة أشهر. وفي الواقع، يبدو أكثر فأكثر أن التفاوض ليس فقط على وقف إطلاق النار عدة اسابيع، وعلى تبادل أسرى على ثلاث مراحل، بل قد يفتح وقف إطلاق النار الباب على التفاوض على نهاية حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزّة. هذا على الأقل ما يقوله الوسطاء الأميركيون علناً، ويقدّمون تصوّرهم لهذه التسوية السياسية. من هنا التشدد الكبير الذي تبديه إسرائيل والتعنّت والتمسّك بالاستمرار بالحرب حتى تحقيق الأهداف التي وضعتها لها، والتي في رأيها لم تتحقق سوى جزئياً، وأن الحرب لن تتوقف قبل تحقيق "الانتصار المطلق". ميدانياً، يقول الجيش الإسرائيلي إنه فكّك ثلاثاً من أربع كتائب لـ"حماس" في خانيونس، يعترف بأن كتائبها القتالية في جنوب غزّة وطواقمها المدنية لا تزال كما هي. في هذه الأثناء، يرجّح رئبس الأركان الإسرائيلي أن تحقيق هدف القضاء على "حماس" قد يستغرق أشهراً أخرى، بينما يقدّر بني غانتس أنه قد يستغرق أعواماً.
في هذه الظروف، أي قبول إسرائيلي بوقف القتال مقابل استرجاع أسراها مختلف تماماً عما حدث في صفقة التبادل الأولى. حين عاد الجيش الإسرائيلي بسرعة، بعد تعثّر عملية التبادل الأخيرة إلى استئناف عملياته العسكرية بقوة كبيرة. هذه المرّة ستكون لوقف القتال دلالات مختلفة وتداعيات واسعة النطاق على الداخل الإسرائيلي.
كلما استمرّت الحرب اتضح حجم تعقيدها وأهميتها المصيرية بالنسبة إلى إسرائيل التي تعتبر نفسها تخوض حرباً دفاعاً عن وجودها في هذه المنطقة
معنى وقف إسرائيل عملياتها العسكرية الآن، قبل أي شيء آخر، فشل مقولة إن الضغط العسكري وحده يؤدي إلى تحرير المخطوفين، ومعناه أيضاً قبولها الضمني باستمرار وجود "حماس" العسكري والسلطوي في جنوب القطاع، الأمر الذي يتعارض تماماً مع صورة "الانتصار المؤزّر" التي يتحدث عنها قادة إسرائيل على "حماس". بل هناك أبعد من ذلك، تتخوّف إسرائيل من أن يؤدي قبولها بوقف القتال حتى من دون انسحاب الجيش الإسرائيلي من شمال القطاع ووسطه إلى تصوير "حماس" ذلك انتصاراً معيناً لها، على الرغم من الثمن الهائل الذي دفعه أهالي غزّة واستمرار معاناتهم ومحنتهم التي تزداد حدّة يوماً بعد يوم. لكن الأخطر، في نظر إسرائيليين كثيرين، بقاء قادة "حماس" على قيد الحياة في القطاع، وعدم مغادرتهم له الذي سيعتبر ليس فقط فشلاً إسرائيلياً بالقضاء على هذه القيادات، بل معناه أيضاً أن هذه القيادات لن تذهب إلى أي مكان، ولا بد أن يكون لها دور في بلورة ما أصبح يطلق عليه "اليوم التالي" للحرب على غزّة. من هنا السؤال الأساسي الذي يطرحه قادة إسرائيل على أنفسهم: هل استعادة المخطوفين الآن، وفي هذه الظروف، تستحق تعريض "الإنجازات" العسكرية لإسرائيل للخطر؟
كلما استمرت الحرب اتضح حجم تعقيدها وأهميتها المصيرية بالنسبة إلى إسرائيل التي تعتبر نفسها تخوض حرباً دفاعاً عن وجودها في هذه المنطقة، وهي من خلال تدميرها المنهجي ليس فقط حركة حماس، بل أيضاً حياة الغزّيين عموماً، لا تريد تلقين درسٍ قاسٍ فحسب لحركة مقاومة فلسطينية تجرّأت على محاربتها، بل لكل العرب والأطراف التي قد تتجرّأ يوماً على تحدّيها. من هنا تعقيدات هذه الحرب وتشابكها وتجاوزها الأهداف العسكرية الإسرائيلية المعلنة إلى مسائل جوهرية تطاول مكانة إسرائيل وصورتها في المنطقة.
المعارضة الإسرائيلية التي تؤيد صفقة التبادل الآن تفصل بين موقفها هذا واستمرار الحرب في غزّة حتى تحقيق أهدافها
بالإضافة إلى هذا كله، أي قبول إسرائيلي بوقف إطلاق النار حالياً في إطار صفقة تبادل للأسرى ستكون له تداعيات على الوضع الداخلي الإسرائيلي، ويمكن أن يهدّد بسقوط الائتلاف اليميني المتطرّف الذي يترأسّه بنيامين نتنياهو حالياً، ودخول إسرائيل في حالة من عدم الاستقرار السياسي ونشوب أزمة حكومية حادّة مع تفاقم عدم الثقة برئيس الحكومة نتنياهو، والانطباع، في داخل إسرائيل وخارجها، أنه يرغب في استمرار الحرب خدمة لمصالحه السياسية، وحفاظاً على بقائه في السلطة، وأنه أسير بين يدي وزراء اليمين المتطرّف الذين يجدون في الحرب على غزّة تحقيقاً لحلم العودة إلى الاستيطان في القطاع، وبدئهم حملة دعائية لتسجيل أسماء العائلات اليهودية والنوى الاستيطانية التي سيعملون على إقامتها في غزّة بعد ترحيل سكان غزّة طوعاً أو قسراً. لكن الموقف الرافض وقف القتال الآن ليس محصوراً بالقيادتيْن السياسية والعسكرية، فالمعارضة الإسرائيلية التي تؤيد صفقة التبادل الآن تفصل بين موقفها هذا واستمرار الحرب في غزّة حتى تحقيق أهدافها. وحتى وسط الرأي العام الإسرائيلي الواسع الذي جزءٌ كبير منه يتعاطف مع أهالي الأسرى ويؤيد عملية التبادل، لكن استطلاعات إسرائيلية للرأي العام، أجراها معهد دراسات الأمن القومي في مطلع يناير/ كانون الثاني، تفيد بأن تاييد الإسرائيليين أهداف الحرب بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية ما زال واسعاً (74% بين العلمانيين، و79% إلى 81% بين المحافظين و91% بين الحريديم أو المتدينين المتشدّدين). ويعكس هذا التأييد الجماهيري كيف غيرّت هذه الحرب وضع المجتمع الإسرائيلي الذي كان قبل ذلك يعاني من الخلافات والانقسامات بسبب الخلافات في الرأي حيال الانقلاب القضائي الذي طرحته حكومة نتنياهو، وكيف أن هذا المجتمع اتّحد مجدّداً حول حرب يعتبرها مصيرية، على الرغم من تعاطف شرائح واسعة منه مع أهالي المخطوفين، وتأييدهم صفقة التبادل وعدم ثقتهم برئيس الحكومة نتنياهو. وعلى هذا الموقف العام المؤيد لأهداف الحرب، تعتمد الحكومة الإسرائيلية في إصرارها على الاستمرار فيها ورفضها أي وقف للقتال حتى تحقيق أهدافها، ولو كان الثمن التضحية بأسراها.