هل كشفت الهدنة سرديّات إسرائيل الكاذبة عن الحرب؟
تتعامل إسرائيل في حربها الوحشية ضد الفلسطينيين مع مسلّمة بنت عليها سرديّة ثابتة، منذ أطلقت الحركة الصهيونية إسرائيل مشروعاً (أواخر القرن الـ19) وصولاً إلى إقامتها (1948)، أن وجودها وأمنها مقرونان بنفي الآخر أو تغييبه وإخفائه من الوجود، أي الشعب الفلسطيني، فمشكلة إسرائيل في حقيقة وجوده، وهو أنه لا يغيب ولا يختفي، وربما نستطيع القول لا يُباد، على الرغم من كلّ جرائم إسرائيل التي تهدف إلى ذلك، بل إنه شعب عنيد ويواصل البقاء، والمقاومة، وأنّ الذين يموتون جسداً لا يموتون حقاً، إذ تنتقل أرواحهم وذاكرتهم ورائحة وطنهم، وأسماء مدنهم وقراهم وحاراتهم، وحجارتهم، وأشجارهم، وكامل قضيتهم، إلى صغارهم، حيث يكونون، سواء في فلسطين أو خارجها.
ولعلّ قناعة الإسرائيليين بحقيقة وجود الشعب الفلسطيني، على عكس مقولتهم التي برّرت اختيارهم فلسطين وطناً لليهود بأنها "أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"، هي ما يفسّر تركيز العملية العسكرية الإسرائيلية الدموية (السيوف الحديدية) على استهداف المباني المدنية وقتل ما تستطيع من المدنيين، وهي ما يبدّد روايتها أنّ هدفها هو استئصال حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من غزّة، فقد كانت معظم أهدافها ولا تزال مدنيةً وشعبية، ومعظم ضحاياها من الأطفال والنساء بنسبة 67% من بين الضحايا، الذين فاق عددهم 15 ألفاً وفق أرقام تحقيق لمجلة "+972 ونداء محلي" التي يصدرها صحافيون فلسطينيون وإسرائيليون، وتتوقع زيادة كبيرة في هذه الأعداد مع استمرار الحرب.
رأت إسرائيل في الموافقة على الهدنة فرصة لها قد تمكنها من تدارك تآكل (أو تغيّر) الموقف الدول، الذي بدأ يتفكّك أو ينزاح بعيداً عن الموقف الأميركي المساند لها
ولعلّ في ما تمثله غزّة من صمود ومقاومة تاريخيين أكبر تجلّ لتلك الحقيقة التي ظلت تقض مضاجع قادة إسرائيل، الذين طالما تمنّوا أن يستيقظوا ويجدوا أن غزّة ابتلعها البحر، لكنّها ظلت عصية على الاختفاء، فمنها اندلعت الانتفاضة الأولى (1987 – 1993)، وهي التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب منها، وتفكيك مستوطناتها (2005)، وصمدت أمام الحصار الجائر منذ 16 عاماً، ولا تزال، قبل عملية حماس "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وبعدها، وقد عدّت إسرائيل هذه العملية حدثاً مناسباً لتوقيت حربها المخطّط لها سابقاً، لإبادة الشعب الفلسطيني، والمدينة المستعصية منذ قرابة شهرين على جيش الاحتلال، رغم كل التوحش، بالقياس لجيوش هزمت في ظرف أيام قليلة. ويفسّر هذا الصمود القهر الذي تشعر به إسرائيل من غزّة، وكل ذلك التوحّش ضد الفلسطينيين فيها، وما تسعى إليه باستعجالها استئناف حربها الشرسة، بعد هدنة الأيام السبعة التي لم تكن خياراً إسرائيلياً، بل فرضتها على إسرائيل ظروف داخلية وخارجية، حيث الضغط الشعبي الداخلي الذي مارسه أهالي الأسرى الإسرائيليين، وتوظيف المعارضة ما حدث يوم 7 أكتوبر في سياق الفشل السياسي لرئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) وأجهزته الأمنية، ما استدعى استراحة تهدئة اضطرارية تحتوي فيها الحكومة الغضب الشعبي، استعدادا لمرحلة حربٍ جديدةٍ تحتاج فيها إلى موقف داخلي موحّد، المرجّح أنها لن تحصل عليه ضمن سيناريوهات الخلافات الحزبية القائمة.
ومن جهة أخرى، رأت إسرائيل في الموافقة على الهدنة فرصة لها قد تمكنها من تدارك تآكل (أو تغير) الموقف الدول، الذي بدأ يتفكّك أو ينزاح بعيداً عن الموقف الأميركي المساند لها، حيث باتت حكومات أوروبية كثيرة تواجه سيلاً جارفاً من التظاهرات الشعبية المساندة للفلسطينيين، بعد انكشاف حجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحقّ المدنيين في غزّة، وانحسار مصداقية روايتها أمام الشارع الغربي عموماً، على الرغم من توظيف معظم وسائل الإعلام العالمية لتبرير الحرب تحت مسمّى كاذب "الدفاع عن النفس".
إسرائيل عبء أخلاقي وأمني واقتصادي على الدول الغربية، التي يعيش اليهود بين ظهرانيها، وحتى على اليهود في العالم وصورتهم
إذاً، هذه إسرائيل اليوم أضحت مكشوفة أمام فضائيات العالم، إذ باتت سرديتها موضع شكّ، بل موضع إدانة، حتى إنّها، في توحّشها المنفلت، فتحت أسئلة قديمة عن المبرّرات السياسية والقانونية والتاريخية والأخلاقية لإقامتها، وحتى إن هذه الأسئلة باتت مثار نقاشٍ بين يهود العالم.
تدرك إسرائيل أن الهدنة كشفت بعض جرائمها أمام مجتمعها والعالم، على عكس ما رجته منها، حيث تجوّلت الكاميرات والصحافة داخل غزّة، ولمست عن قرب فظاعة الأرقام التي تتحدّث عن تدمير إسرائيل مباني مدنية، وقرى بكاملها، بغرض التنكيل بالشعب وإبادته، وإرهاب من يحالفه الحظ بالبقاء على قيد الحياة، ليكون التهجير وسيلته للنجاة، إلا أنها لم تدرك غايتها، وبقي شعب غزّة صامدا في مكانه. ويمكن القول إن السحر انقلب على الساحر، إذ لم يختف الشعب الفلسطيني، بل إنه، أيضا، بات حاضرا بكل قوّة، كشعب في الداخل وفي كل المجتمعات العربية والغربية، ومؤثّرا في الضمير الأخلاقي العالمي، في مقابل خسارة إسرائيل مكانتها بوصفها ضحية.
وعلى صعيد آخر، تطرح هذه الحرب الاسرائيلية على غزّة أسئلة عديدة بشأن حقيقة نشأتها وسردياتها أنها المكان الآمن لليهود، في وقتٍ بات على اليهودي، في ظل حكوماته العنصرية والدموية، أن يتحوّل من ضحية إلى قاتل، وتنكشف الدولة "الديمقراطية" أمام العالم على حقيقتها منذ نشأتها كدولة إسبارطية متغطرسة، تمارس سياسة الإبادة والعقاب الجماعي ضد الفلسطينيين، لتصبح عبئاً أخلاقياً وأمنياً واقتصادياً على الدول الغربية، التي يعيش اليهود بين ظهرانيها، وحتى على اليهود في العالم وصورتهم ومكانتهم في مجتمعاتهم.
إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين تتماهى مع جلّاديها
الفضيحة التي كشفت عنها وقائع حرب إسرائيل ضد غزّة أنها حرب إبادة وحرب تطهير عرقي وحرب وحشية وكراهية تنطوي على نزع إنسانية الآخر، الفلسطيني، واعتبار ذلك بمثابة امتياز لها. وهذا بالضبط ما كانت تمثّله النازية في رؤيتها إلى ضحاياها اليهود، وغيرهم، أي أن إسرائيل في حربها تلك ضد الفلسطينيين تتماهى مع جلّاديها، حتى إن رئيس الكنيست الأسبق أبراهام بورغ شبّه سياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين بسياسات النازية في البلدان التي احتلتها في الحرب العالمية الثانية. دلالة ذلك قتل الأطفال والنساء والمدنيين، بل قتل أسر كاملة عددها بالعشرات، حتى لا يبقى منهم أحد، وقطع المياه والكهرباء والوقود والغذاء، وهدم البيوت والمشافي. ولم يأت هذا نتيجة أخطاء حربية، أو أضرار جانبية، وإنما وفق مخطّطات معدّة مسبقاً وجداول رقمية معروفة للقيادات الإسرائيلية، وهذا ما أكّدته لمجلة "+972 ونداء محلي" مصادر عديدة، بشرط عدم الكشف عن هويتها، "أن لدى الجيش الإسرائيلي ملفّات حول الغالبية العظمى من الأهداف المحتملة في غزّة، بما في ذلك المنازل، التي تنصّ على عدد المدنيين المرجّح أن يقتلوا في هجوم على هدف معين. يجرى حساب هذا الرقم، ومعروف مسبقا لوحدات الاستخبارات التابعة للجيش، والتي تعرف أيضا، قبل وقت قصير من تنفيذ الهجوم تقريبا، عدد المدنيين المؤكّد أنهم سيُقتلون". العلامة الجديدة على ذلك في تقسيم الجيش الإسرائيلي قطاع غزّة إلى "بلوكات" (أو مربّعات)، مع علامة على شكل رقم (تماما كما كانت تعمل النازية بوضع إشارات على بيوت اليهود لاستهدافهم)، لإعلام السكّان في كل مربّع بإخلاء المناطق وفق الرقم، لإجبار ساكنيه على مغادرته إلى مربّع آخر، وللادعاء أنها تتجنّب استهداف المدنيين، وأنها تحارب "حماس" فقط، في حين تتوخّى بعدها دفع هؤلاء المتجمّعين لإزاحتهم ربما خارج غزّة، أي إما قتل أو ترانسفير جديد، أو إخضاع الفلسطينيين للسردية الإسرائيلية وقبولهم بنفي سرديّتهم والاختفاء كبشر مع سرديتهم وحقوقهم ودولتهم.