هل من سبيل للخروج من كارثة العدوان والإبادة؟
كثيرة "المسلّمات" والتحليلات السياسية و"الاستراتيجية" التي سادت في مرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى، التي تحتاج منّا مراجعات جادّة وتمحيصاً دقيقاً لأسُسها وقواعدها وعمادها. من ذلك، التهوين من قوة إسرائيل وقدرتها على خوض حروب طويلة ومكلفة، والتنظير للضعف والتراجع الأميركي عالمياً، والمبالغة في تصوير قدرات المقاومتَين الفلسطينية واللبنانية، وداعمهما الإيراني. من دون تلك المراجعات الجادّة والتمحيص الدقيق، نغامر بتسويق أوهام، ومن ثمَّ تعميق الأثمان الباهظة التي يدفعها قطاع غزّة تحديداً، والشعبان الفلسطيني واللبناني استتباعاً، وصولاً إلى المساعي الإسرائيلية الأميركية إلى تطويع المنطقة ككل، ولإعادة صياغتها بعد تحييد وإزهاق بؤر وتيّارات الحصانة والممانعة فيها. إنّنا أمام لحظة فارقة تقتضي منا إدراك أنّ القراءات الاستشرافية الإستراتيجية المتفائلة (وكثير منها ينطلق من محاولات جادّة وقائم على أسس تحليلية منطقية) إن هي أغفلت واقع الحال وتعاملت مع الوقائع والحقائق بعقلية الإنكار والتغاضي، فإنّ المستقبل المأمول والمُستَشرَف لن يأتي أبداً، ذلك أنّنا لن نعمل على تحقيقه، اللهم إلّا إذا كان الرهان قائماً على الغيبيات والميتافيزيقيات. إن إيجاد التوازن بين بثِّ الأمل الحقيقي القائم على قواعد صلبة وراسخة، وتجنّب إشاعة اليأس، من ناحية، ومخاطر التسبّب بالإحباط إن فشلت الرهانات الموعودة، من ناحية أخرى، ليس بالأمر الهيّن ولا السهل.
لا تسعى هذه السطور إلى مناقشة ما جرى في 7 أكتوبر (2023)، ليس تقليلاً من أهمّية ذلك، ولا تجنّباً للخوض في موضوع مَلغومٍ لا يخرج منه أيّ كان من طرق بابه، فحسب، وبغضّ النظر عن زاوية المقاربة، من دون جروح وندوب، وربّما من دون سحق للعظام. الأكثر أهمّية في هذا السياق أنّ ما جرى جرى، ونحن اليوم نتعامل مع تداعياته، وفي خضمّ معركة إبادة، والأولوية هي للنجاة منها وإفشال مخطّطاتها، سواء رحمةً بالضحايا، أم منعاً لطيّ ملفّ المظلومية والحقوقية الفلسطينية والجريمة الإسرائيلية الغربية في حقّنا جميعاً. بعد أن يضع العدوان الوحشي أوزاره يمكن حينها أن تُعلَن النقاشات حول أين أخطأنا وأين أصبنا وكيف نُصَوِّبُ المسيرة ونُجوِّد صناعة القرار وإدارة الصراع الجيلي مع المشروع الصهيو-إمبريالي (بالمناسبة هذه النقاشات جارية في دوائر ضيقة وليس مطلوبا نشرها على العامّة الآن)، في سياقٍ تقويميٍّ لا اتهاميٍّ، إذ لا ينبغي أبداً تسويغ جريمة إسرائيل الوحشية وانهيار الغرب، وعلى رأسه الولايات المتّحدة، أخلاقياً وقِيَميّاً وإنسانيّاً.
الخروج من الواقع الكارثي مصلحةً جمعيَّةً تتجاوز دعوات تحميل المسؤوليات وإصدار الاتهامات
المطلوب اليوم البحث في وسائل وآليات وطرائق تعزيز المقاومة والصمود الفلسطيني واللبناني، بغية رفع الكلفة على المعتدي، على أمل إنجاز صفقةٍ واسعةٍ تحفظ بعض ما تبقّى من حقوق ومُنجَزات. إنّ هذه ليست مسؤولية من هم في الأرض، فهم ورغم صمودهم الأسطوري، إلّا أنّ حقّهم على شعوبهم وأمّتهم أن تُخفّف عنهم وتضع بعض الأحمال عن كواهلهم. أمّا الذين يطالبون بالاستسلام ورفع الراية البيضاء فإنّهم يمارسون الخداع والتهابل، ذلك أنّهم يدركون أنّ إسرائيل لن تقف عند حدود كسر المقاومتَين الفلسطينية واللبنانية والقوى الإقليمية المساندة لهما، بل إنّها ستمضي أبعد من ذلك لتصفية القضية الفلسطينية وتطويع المنطقة برمّتها لإرادتها. ومن ثمَّ يصبح الخروج من الواقع الكارثي مصلحةً جمعيَّةً تتجاوز دعوات تحميل المسؤوليات وإصدار الاتهامات، إذ إنّ ذلك لن يجدي نفعاً الآن.
هنا، من الضرورة بمكان أن نُقِرَّ أنّ لا أحدَ، مُنخرِطاً كان في المقاومة والصمود، أم هو في جبهة الإسناد والتثبيت، أم في صفوف النخب المُشتبِكة والمُتفاعلة، أم في صفوف المتربّصين والشامتين من داخل الساحات الفلسطينية واللبنانية والعربية، يملك حلّاً سحرياً (اللهم إلّا من يُنظِّرون ويتمنّون تحقيق الاستسلام التام) لهذه الحرب الشعواء التي تشنّها إسرائيل وأميركا وحلفاؤهما. أعرف أنّ لا جديد يشار إليه بالبنان فيما يطرح هنا، فما صاحب هذه السطور إلّا واحد ممّن يجدون أنفسهم أسارى توصيف حجم الكارثة التي نحن بصددها، لكن هذا لا يعني أبداً أن نزيل عن عواتقنا مسؤولية التفكير والبحث والسعي والنضال للخروج من المأزق الذي يواجه قضايانا وشعوبنا. من اللازم علينا أن نكسر الثنائية الشرّيرة التضادّية، تسويق الوهم من ناحية، وإشاعة الإحباط من ناحية أخرى. أخيراً، أخذ الغيب والميتافيزيقا في الاعتبار ليس خياراً غير عقلاني، فثمَّة دلائل على حضورهما في عالم الشهادة، لكن الركون إليهما كلّياً والارتهان لهما من دون استراتيجيات وتكتيكات للمواجهة والبناء هي السفاهة بعينها، وهو أمر لا يقرّه قطعاً دين ولا عقل ولا منطق.