هل من صفقة سياسية ممكنة بين النظام السوري وتركيا؟
تضغط روسيا من أجل التقارب بين النظام السوري وتركيا، ويبدو أنّها أحرزت خطوات جديدة، حيث تخلى بشار الأسد عن شرط انسحاب الجيش التركي من أراض سورية، وأصبحت تركيا معنية بتعديلات في اتفاقية أضنة لتستطيع التدخل بالأراضي السورية أكثر من 30 كيلومتراً ومواجهة حزب العمّال الكردستاني، بينما تتيح لها تلك الاتفاقية التوغّل خمسة كيلومترات.
من أكبر الأخطاء القول إن هذا التقارب يحدُث أوّل مرة، فهو للدقّة بدأ منذ عام 2016، ودخول النظام إلى حلب؛ حيث أشرفت روسيا على اتفاقات مع تركيا عبر تفاهمات سوتشي وأستانة، وصولاً إلى مناطق خفض التصعيد في 2018؛ وقد تمّت هذه الخطوات بالتوافق مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ووفوده إلى المنصات السابقة الذكر، وكذلك إلى اللجنة الدستورية. منذ ذلك الوقت، وبفضل الاتفاقيات تلك، استعاد النظام مناطق واسعة لسيطرته، وحُشرت الفصائل في مناطق حدودية. ولم يتوقف هذا السياق لتطوّر الأحداث أبداً، وتقريباً انتهت المعارك منذ ذلك الوقت، ولكن الخطوط الدولية لم تُفتح من معبر نصيب إلى تركيا، وكذلك من اللاذقية إلى تركيا؛ كانت الاتفاقيات تَفترض فتحها، ولكن الخلافات بين روسيا وتركيا وإيران، ولكل منها شروطها وسياساتها، أدّت إلى تأخّر الفتح، وهناك الولايات المتحدة التي تدعم حزب العمّال الكردستاني، بعد أن أَوقفت مختلف أشكال الدعم للغرفتين، الأمنيتين والعسكريتين (الموك والميم)، ليتبيّن أن مشروعها في سورية هو دعم قوات سوريا الديمقراطية (الكردية) وترك سورية للتعفّن، وفي الوقت ذاته، تعطيل أيّة مشاريع لإعادة إنتاج النظام، تتبنّاها روسيا وبالتنسيق مع إيران وتركيا.
هناك ضغطٌ روسيٌّ شديدٌ لإحداث التقارب، سيما أن هناك بعض الفتور في العلاقة مع إيران، وكذلك بين تركيا وأميركا، وأعلنت، أخيراً، الولايات المتحدة أنّها لن تغادر سورية، بينما أعلن وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، أن مصير قوات سوريا الديموقراطية (قسد) سيماثل مصير قوات النظام الأفغاني ما قبل انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان، أي ستتلاشى لاحقاً. والنظام فاقد أيّة مبرّرات لاستمراريته، وليس لشرعيّته فقط، والضعيف على نحو استثنائي، وقواه مقسّمة بين إيران وروسيا، وهناك خلافات بينه وبين إيران على أرضية معارضته الدخول في أيّة مواجهات إقليمية وضد دولة الاحتلال؛ وليس أمام هذا النظام أيّة فرصة إلّا الانحناء للروس. تعي روسيا جيّداً كل هذه التعقيدات، وتعي رغبة تركيا بالخلاص من قوات سوريا الديمقراطية، أو محاصرتها أكثر فأكثر، وربما تتوقّع تركيا، وبعد الخطوات الجديدة في التقارب مع النظام وتعزيز العلاقات مع روسيا، أن المشكلات في المشهد السوري قد ذُللت، وأن أميركا قد تتخلى عن قوات سوريا الديمقراطية وبالتدريج، ويتم التوافق على صفقة سياسية، تتحقّق من خلالها مصالح الدول المتدخلة في سورية.
جاء لقاء المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، في قاعة في مطار غازي عنتاب، في الثالث من سبتمبر/أيلول الجاري، مع مسؤولين من الخارجية والاستخبارات التركية بعد هذه الحيثيات. وجاء لمعرفة توجّهات المعارضة، والتي لم تتقدم برؤية سياسية حول لقاء تركيا مع النظام، أو التحرك الروسي، وظهرت منقسمة بين أجنحتها السياسية ذاتها وجناحها العسكري، وتلت اللقاء بيانات من هذه الفصائل والحكومة المؤقتة، تُوضّح حالة التفكك والتفتت الواسعة بها والمصالح المتضاربة، وهذا ما سيساعد تركيا على إعادة ضبط تلك القوى، بما يتناسب مع مصالحها في التقارب مع النظام.
عدم ضغط تركيا على المعارضة، العسكرية والسياسية، لأنّها في غاية الضعف، ويمكن أن تفعل ذلك في أيِّ وقتٍ، وروسيا ليست منشغلةً أو حتى النظام بإعادة تلك المناطق من أصله؛ فمشكلات روسيا في أوكرانيا تمنعها من الدعم المالي للنظام، والأخير في أسوأ أحواله المالية، وهي وإيران تطالبانه بالمستحقّات المالية، وتعقدان معه الاتفاقيات الاقتصادية بشكلٍ مستمرٍ.
الخلافات بين روسيا أو تركيا أو إيران أو أميركا لم تمنع هذه الدول من تطبيق مناطق خفض التصعيد عام 2018، وكانت بموافقة أميركية
التقارب بين النظام وتركيا، وإصرار الأخيرة على صيغةٍ معيّنة لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، وتأكيد دبلوماسيتها عليه أمر جيد، ولكن التقارب، ورغم الضغط الروسي، على الأغلب لن يتحقّق سريعاً، ولن تتغيّر الخرائط الحالية، وفتح معبر أبو الزندين لن يكون مقدمة للتقارب، على الأغلب، وكذلك هناك هيئة تحرير الشام التي تعيق فتح الطرق الدولية. وبالتالي، يتطلب الأمر تسويةً مع الهيئة أو حرباً ما، وهو ما باشرت به الأخيرة بقصد الحفاظ على مكاسبها، وليس لفتح معارك التحرير؛ والولايات المتحدة لن تسمح بالضغط على "قسد" في هذه الآونة. ولهذا، تسعى روسيا إلى تطبيع العلاقات بين النظام وتركيا، ولكن ليس بالضرورة بسرعة، وليس على حساب مناطق الفصائل حالياً.
ما هو مقلق في مناطق الفصائل أنّها ستتعرّض لضغوط تركية، وقد تنزلق الأمور إلى مواجهة بين بعض الفصائل، ولكنها لن تكون معارك كبيرة. الجبهة الشامية مستفيدة من إغلاق المعابر باستمرار فتحها معابر خاصة بها، وهناك معابر "سريّة" للهيئة مع النظام كذلك، وهو ما تفعله "قسد" سرّاً وعلناً، وللدقة هي مصالح مشتركة لتلك الفصائل ولقادة الفرق العسكرية لدى النظام!
الفكرة السابقة عن عدم استعجال النظام لاستعادة مناطق الفصائل، لا تعني رفض أن التنسيق الروسي التركي يقتضي ذلك، وتفكيك هيئة تحرير الشام واستعادة إدلب. المشكلة أن النظام في غاية الضعف، وهو لا يستطيع إخماد الفوضى في درعا، ولا استعادة السويداء، فكيف سيحارب الفصائل أو هيئة تحرير الشام. ولكن هل ستغامر تركيا أو روسيا بحربٍ ضد الفصائل وهذه الهيئة؟ وهل التنسيق يتضمّن ذلك؟ هذا ربما في مرحلة لاحقة!
من أكبر الأوهام الاعتقاد أن تركيا ستظّلُ حامية للفصائل وللمعارضة السوريتين
هناك تعقيدات كبرى في هذا الأمر؛ ما لا يجوز تجاهله أن الخلافات بين روسيا أو تركيا أو إيران أو أميركا لم تمنع هذه الدول من تطبيق مناطق خفض التصعيد عام 2018، وكانت بموافقة أميركية. والسؤال ألا يمكن أن يتكرّر الأمر ذاته في الأشهر المقبلة، سيما أن إمكانية أن يتفكّك النظام أصبحت كبيرة للغاية، وحرصت هذه الدول، بما فيها الولايات المتحدة، على عدم تفكّكه. الخوف من زوال النظام ربما هو بالتحديد ما سيدفع الدول المتدخّلة إلى الوصول لصفقةٍ بخصوص السلطة في سورية.
من أكبر الأوهام الاعتقاد أن تركيا ستظّلُ حامية للفصائل وللمعارضة السوريتين؛ فهي ساهمت بحشرها على الحدود، وإن هذا الوهم يعاكس التقارب مع النظام ومع مختلف الدول العربية، والأمر ذاته يخصّ كل الدول المتدخلة في سورية؛ فهي جميعها معنية بالحفاظ على مصالحها، لا على مصالح النظام أو المعارضة؛ فهل حان الوقت لتلك الصفقة، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، ومنع تفكّك النظام وتحقيق نوع مخفض من الانتقال الديمقراطي؟ ربما.
من الأهمية بمكان استمرار الانتفاضات في السويداء والشمال السوري، وهو ما سيضغط على الدول المتدخلة من أجل الحفاظ على مصالح السوريين؛ النظام والفصائل وهيئة تحرير الشام وقسد؛ كلّها أقامت سلطات استبدادية وفاسدة وضد مصالح الشعب، وهي تبحث، في هذه الآونة، عن مصالحها في أيّة صفقة مستقبلية.