هل يعتذر قيس سعيّد؟
موقف الرئيس التونسي، قيس سعيّد، المعلن أخيرا من وجود أفارقة من جنوب الصحراء بطريقة غير نظامية في بلاده واحدٌ من مواقفه التي لم تتوقف خسائرها في الداخل والخارج. ولم تكن تونس التي تعبُر ظرفا زمنيا متوترا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بحاجة إلى هذا الموقف المتشنج وغير محسوب العواقب، وها هي اليوم تُحصي خسائرها، وتدخل، بعد نفق الأزمات المركّبة، نفق العزلة الدولية التي قد تتواصل في الزمن الأصعب لسنوات مقبلة، ويُخشى أن تصبح معزولة "كالجمل الأجرب".
ترأس سعيّد يوم 21 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) مجلسا للأمن القومي "خصّص للإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس"، مشيرا إلى أن هناك ترتيبا إجراميا جرى إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وأن جهات تلقّت أموالا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس. واعتبر أن الغرض من هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية اعتبار تونس دولة أفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية. وجاء في بيان الرئاسة بالمناسبة التأكيد "على ضرورة وضع حد بسرعة لهذه الظاهرة، خاصة وأن جحافل المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء ما زالت مستمرّة مع ما تؤدّي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة، فضلا عن أنها محرّمة قانونا".
صعّدت كلمة سعيّد هذه نبرة الخطاب، وأجّجت الدعوة إلى العمل على كل الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والتطبيق الصارم المتعلق بوضعية الأجانب في تونس. والملاحظ أن هذا الموقف المتشنج والمتسرّع لرئيس الجمهورية سبقته حملة ممنهجة ضد المهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء، أطلقها ما يسمّى الحزب القومي والوطني وحراك 25 يوليو المساند لمشروع قيس سعيّد، لتنتشر كالنار في الهشيم عبر عدة صفحات في "فيسبوك"، روّجت مغالطات وأعدادا خيالية عن عدد الموجودين الأفارقة في تونس، والذي اعتبرته يتجاوز المليون نسمة، فضلا عن بثّ خطاب الكراهية والعنصرية والتحريض على العنف ضدهم، وذلك ما حدث واقعا وفعلا، أخيرا، في العاصمة تونس وفي جهات داخلية عديدة من البلاد.
كان من الطبيعي أن يُنتج هذا التصريح الصادم لرئيس الجمهورية ردود فعل وحملات عنيفة ضد رئاسة الجمهورية في تونس، وفي مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الرسمية للمنظمات والدول والحكومات الأفريقية، وخصوصا حكومات جنوب الصحراء ومنظمة الوحدة الأفريقية، وقد وصل الأمر إلى رفع شعاراتٍ في الملاعب، واتخاذ مواقف من مؤثرين دوليين من أصول أفريقية، وصولا إلى البنك الدولي الذي اتخذ قرارا مؤقتا بإيقاف التعاون مع تونس، على خلفية أنها تسيء معاملة الأفارقة المهاجرين، وأرجأ اجتماع مجلسه الذي كان مقرّرا في 21 من مارس/ آذار الحالي حتى إشعار آخر. ويراكم هذا الموقف للبنك الدولي ما سبقه من مواقف مندّدة صدرت عن أمين عام الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجهات أميركية فاعلة، ويُخشى أن يؤثر ذلك كله على القرض الذي تنتظره الحكومة من صندوق النقد الدولي.
الإجراء الوحيد لإيقاف خسائر تونس الناجمة عن تصريح سعيّد إزاء المهاجرين الأفارقة اعتذاره
أمام هوْل الأزمة وخطورة تداعياتها على صورة تونس ومصالحها في افريقيا والعالم، سعت رئاستا الجمهورية والحكومة ووزارة الخارجية خلال الأيام والساعات اللاحقة لصدور تصريح سعيّد إلى تطويق الأزمة هذه، ولكن بخطوات وخطاب ديبلوماسي تقليدي اقتصر على القول إن بيان الرئاسة "أُخرج من سياقه"، وإن المراد منه إعلان السلطة التنفيذية عن تطبيقها القانون في ملف الأجانب المقيمين في البلاد لا غير، وتضمن البيان في هذا الشأن من رئاسة الجمهورية الإعلان عن إجراءاتٍ لفائدة الأجانب المقيمين في تونس، بهدف حمايتهم وتوفير إقامة طيبة للنظاميين منهم، وتيسير المغادرة الطوعية لغيرهم، إضافة إلى تعزيز الإحاطة وتكثيف المساعدات الاجتماعية والصحية والنفسية اللازمة لكل المهاجرين واللاجئين من الدول الأفريقية. ورغم هذه الإجراءات المعلنة، ظل أثرها محدودا نتيجة الخطاب الملتبس من الأزمة، والتي أحالها إلى أطرافٍ "مجهولة ومعلومة"، قادت حملةً تتهم فيها تونس، والرئاسة خصوصا بتبنّي خطاب عنصري، ولسان حالها يقول إنها أبعد ما تكون عن ذلك، فهي من مؤسّسي الاتحاد الأفريقي، ومن داعمي دوله وتحرير شعوبه. رغم ذلك، انطلقت ردود الفعل في الشارع وفي الفضاء العام وعلى مستوى المؤسّسات السياسية لمجموعة من الدول الأفريقية التي نظمت رحلات إجلاء لرعاياها من تونس، كما انطلقت حملات مقاطعة للمنتجات التونسية وإجراءات ترحيل التونسيين في عدة دول أفريقية جنوب الصحراء. ويبدو أن السلطة التونسية أدركت، أخيرا، فظاعة موقف سعيّد وتأثيراته على مختلف الأصعدة الديبلوماسية والاقتصادية، وعلى سلامة التونسيين أنفسهم. ولكن الخرق اتسع عن الراتق، ليتضح جليا أن رئاسة الجمهورية وضعت نفسَها والبلاد التونسية ومصالحها في مأزقٍ كبير بعد البلاغ (البيان) الذي وصفه الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عثمان بن عمر، "بالمخزي". وقد دعا المنتدى ومنظمات مدنية وشخصيات وازنة ووسائل إعلام جادّة سعيّد إلى ضرورة الإعتذار العلني والذهاب نحو المراجعة الحقيقية للمنظومة القانونية التونسية في علاقةٍ بالهجرة والمهاجرين، وفي اتجاه التسوية الشاملة لوضعية المهاجرين من جنوب الصحراء، ودعوة المواطنين صراحةً إلى التصدّي لكل من يحاول استهداف المهاجرين، وطردهم من عملهم أو مقرّ سكناهم أو الاعتداءات اللفظية التي يتعرّضون لها. ونبهت هذه المواقف إلى ما يمكن أن يحصل للمهاجرين التونسيين من مواقف مشابهة في أفريقيا والعالم، ناهيك عن الأضرار الاقتصادية التي لحقت تونس من جرّاء هذا الموقف، علاوة على مؤسّسات التعليم العالي التي تحتضن آلافا من الطلبة الأفارقة.
أخيرا، يمكن القول إن الإجراء الوحيد لإيقاف خسائر تونس الناجمة عن تصريح قيس سعيّد إزاء المهاجرين الأفارقة اعتذاره علنا لهم وللمنظمات الحقوقية والاجتماعية في تونس وأفريقيا والعالم. وبغير ذلك، ستظلّ تونس تحصي خسائرها من جرّاء هذا الموقف وتداعياته الوخيمة على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والديبلوماسية، فهل يفعلها قيس سعيّد ويعتذر؟