هل يعود تنظيم داعش؟
ألقى جهاز المخابرات التركي (المعروف اختصاراً MİT) القبض على أحد أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كان يعمل بهوية مزيفة في محطة أكْكُيو النووية، قيد الإنشاء في ولاية مرسين التركية. وأن يعمل عضوٌ من "داعش" في منشأة بهذه الحساسية لا يأتي مصادفة. لم يتضح بعد سبب عمله فيها، ولم يُنشر أي اعتراف له في الصحافة، ولكن يصعُب تصديق أنه كان يعمل من أجل تغطية نفقاته الحياتيّة كأي شخصٍ آخر، ويزيد من ذلك الشك عملُه بهوية مزيفة.
تعمل الشرطة والاستخبارات التركية بصورة حثيثة للقبض على منسوبي "داعش" منذ 28 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، ففي هذا اليوم تحديداً ارتكب اثنان من منسوبي "داعش" هجوماً إرهابياً على كنيسة إيطالية في إسطنبول، وقتلا شخصاً. وهو هجوم يأتي بعد سبع سنوات من آخر استهداف لتركيا من التنظيم المذكور. وتبيّن لاحقاً أن أحد اللذيْن نفّذا الهجوم يحمل الجنسية الروسية وجنسية الآخر طاجيكستانية، واثناهما ينتسبان لتنظيم داعش - خراسان. وبحسب التقارير الاستخباراتية التي حصلت عليها وسائل الإعلام، يستهدف التنظيم الجنسيات غير التركية، من أجل القيام بأعماله الإرهابية، حتى يصعب على الأجهزة الأمنية التركية تعقبه.
استهدف التنظيم في الثالث من يناير/ كانون الثاني المنصرم الحشود المجتمعة خلال الذكرى السنوية لمقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني السابق، قاسم سليماني، في مدينة كرمان، وقتل 94 شخصاً. وخلال الشهر نفسه، ارتكب التنظيم هجماتٍ عدّة في سورية قتل إثرها تسعة من أفراد الجيش السوري. والخلاصة، خلال شهر واحد، قتل "داعش" أكثر من مائة شخص في ثلاث دول، ما يبعث تساؤلاتٍ كثيرة بشأن عودة التنظيم من عدمها.
أقوم منذ عام 2020 ببحث علمي في مسألة تنظيم داعش، وقد نشرت عنه مقالات علمية عدة. وأهم النتائج التي انتهيتُ إليها أنّ تواري التنظيم عن الأنظار إنما بسبب الضعف الذي اعتراه، لكنه لم ينته تماماً. بمعنى أن التنظيم سيعود إلى ممارسة نشاطه، حالما توفّرت الظروف المناسبة. كما أن أعضاءه ما زالوا على ولائهم القديم، وإن ضعف التنظيم. علاوة على ذلك، لا تزال أغلب الظروف التي أدّت في السابق إلى ظهور "داعش" موجودة.
وجود التنظيم في شبه جزيرة سيناء ما هو إلا لكسْر عود المقاومة الفلسطينية في غزة
بما أن التنظيم يريد أن ينتفض من جديد، إذاً لا بد من دراسة أسباب هذه الانتفاضة والنتائج المحتملة لها. في البداية، هنالك من يعزو هذه الانتفاضة إلى الإبادة التي تمارسها دولة الاحتلال الإسرائيلي في غزّة. فبحسب هذا الادعاء، يريد "داعش" أن يخرج من مخبئه في ردة فعلٍ على المجازر الإسرائيلية. هذا الادعاء، وإن بدا منطقياً، تفنّده أفعال "داعش" السابقة، فقد أعدم "داعش" أحد أعضاء حركة حماس رمياً بالرصاص في يناير/ كانون الثاني 2018، ثم نشر فيديو يستهدف به "حماس" بالأساس. وبحسب بعض الفلسطينيين فإن وجود التنظيم في شبه جزيرة سيناء ما هو إلا لكسْر عود المقاومة الفلسطينية في غزّة. ولافتٌ أن الهجمات المذكورة أعلاه تزامنت مع ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزّة، ومعلوم أن تركيا وإيران تدعمان "حماس" بوضوح، ولا يلتزمان الصمت في وجه الظلم الإسرائيلي. وقد ألقت المخابرات التركية في شهري ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني الماضي القبض على العديد من عملاء الموساد. وإذا كان "داعش" يعمل لصالح إسرائيل، حسب ادعاءات بعضهم، فيمكن تفسير تلك الهجمات بأنها أعمال انتقامية. وإثبات العلاقة بينهما من الصعوبة بمكان، لكن قيام التنظيم بهجمات إرهابية في دولٍ معادية لإسرائيل يزيد من الشكوك، فإذا صحّت فرضية أن "داعش" مرتبط بإسرائيل، فيمكن القول إنها من أعادتها إلى الواجهة مرة أخرى، غير أن من الخطأ الشديد الاستدلال بناءً على الشكوك وحدها.
من ناحية أخرى، هنالك أسباب مؤكّدة لعودة "داعش". ومن كثير كتبته عن هذا التنظيم في فترة نشاطه بين 2014 و2018، أن من أسباب الانضمام إليه شعور المنتسبين إليه بالعزلة أو الاستبعاد في بلدانهم التي ولدوا فيها أو التي يعيشون فيها، وخصوصاً الدول الأوروبية. وقد أفاد بعض من أجريت معهم مقابلات صحافية بأنهم يشعرون بأنهم غير مرغوب بهم من المجتمع، أو أنهم عاطلون عن العمل، أو تعرّضهم لشكلٍ من التمييز في الدولة الأوروبية التي يعيشون فيها. فيما قال بعضهم إن "الجهاد" سبب انضمامهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية، غير أن تبنّيه المنهج السلفي السبب الأهم لانضمام كثير من منتسبيه.
تشكّل الدول التي لا توجد فيها سلطة قائمة أو ضعيفة بيئة خصبة لازدهار تنظيمات مثل داعش
لهذه الأسباب سابقة الذكر، ذهب عشرات الآلاف إلى سورية والعراق، للعيش تحت لواء من يسمّى الخليفة. وخلال فترة نشاط التنظيم الممتدّة أربع سنوات تقريباً، قتل منتسبوه آلافاً من الناس أغلبهم من المسلمين. إن سألت أحد هؤلاء الدواعش سيقول لك إن من لا يتّبعهم من السنة فهو كافر، أمّا الشيعة فهم كفّار بالأساس حسب اعتقادهم. ولهذا السبب، قتلوا مسلمين عديدين بأبشع الأساليب التي لا يتصوّرها أحد.
صحيحٌ أنه جرى تحييد "داعش" في سورية والعراق. لكن الأسباب التي أوجدته قائمة، كما سلف القول أعلاه. والحقيقة أن المجازر الإسرائيلية حالياً ربما أصبحت سبباً إضافياً للتنظيم، لكي يعاود نشاطه، رغم أنه يتّخذ من حركة حماس عدواً له. وكحال عديدين من الشباب الغاضبين من الحكم الاستبدادي لحكوماتهم، زاد من غضبهم صمت تلك الحكومات حيال المجازر في غزّة. ويمتدّ هذا الغضب إلى الجاليات المسلمة في أوروبا بسبب الدعم اللامحدود الذي تقدّمه حكومات أوروبية كثيرة لإسرائيل.
يمكن القول إن هناك تنامياً للعداء تجاه الإسلام في أوروبا، وذلك يزعج المهاجرين المسلمين بالدرجة الأولى. وبناء عليه، قد تتباين ردّات الأفعال تجاه ذلك، فبعضهم قد يرى التظاهر والاعتراض كافياً لإيصال صوتهم، وقلة قد تسعى إلى الانتقام وانتهاز الفرص للقيام بذلك، أو البحث عن الجهات والتنظيمات التي تمكّنهم من تحقيق ذلك المسعى. وفي مثل هذه الظروف، تطفو إلى السطح تنظيماتٌ كداعش تستخدم حالة الغضب هذه لصالح أهدافها الخاصة. إحدى الطرق لإثبات حقيقة "أنا لم أمت، ما زلت على قيد الحياة" هي الهجوم. ربما لهذا السبب، بدأ "داعش" تنفيذ أعماله الإرهابية في سورية وإيران وتركيا. وإذا أتيحت له الفرصة فمن المحتمل أن يرتكب هجمات مماثلة في أوروبا.
من أسباب الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية، شعور المنتسبين إليه بالعزلة أو الاستبعاد في بلدانهم التي ولدوا فيها أو التي يعيشون فيها، وخصوصاً الدول الأوروبية
وتشكّل الدول التي لا توجد فيها سلطة قائمة أو ضعيفة بيئة خصبة لازدهار مثل هذه التنظيمات. أفضل مثالٍ على ذلك البيئة التي توفرت لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية. وقد توسّعت دولة الخلافة المزعومة له بشكل كبير، إلى درجة أن رؤوس هذا التنظيم حكمت فترة من الوقت على مساحة أكبر من أراضي إنجلترا، لكنها، في نهاية المطاف، هُزمت عندما استهدفتها وعناصرها ومواقعها المسلحة الدول الإقليمية والقوى الدولية، إلا أن هذه وتلك لم تتمكّنا من القضاء على التنظيم تماماً. ويمكن القول إن "داعش" حالياً بمثابة روح تتجوّل باحثة عن جسد تسكنه. ربما يكون ذلك الجسد في سورية أو العراق، أفريقيا أيضاً ليست مستبعدة. أما إذا كان التنظيم يخضع لسيطرة أميركا وإسرائيل كما يُزعم، فهنالك احتمال أن يلعب دور القاتل المأجور. وفي هذه الحال، لن يكون من المفاجئ أن يهاجم "حماس".
خلاصة ما سبق ذكره، يمكن القول إن تنظيم داعش لم ينته تماماً. وفي هذه الأثناء، يحاول جاهداً أن ينتفض من تحت الأنقاض، وفي هذه الأوقات، يتخذ من القضية الفلسطينية حجّة لظهوره مرّة أخرى. وإذا عاد التنظيم قوياً كما كان، فإن المنتسبين إليه حديثاً لن يفكّروا في عدائه حركة حماس، أو حقيقة قتله مسلمين كثيرين في السابق. ما يهم منتسبوه هو التنفيس عن غضبهم، من خلال العنف، وطبيعة "داعش" الإرهابية تلبي تلك الرغبات على أكمل وجه. لذلك لا بد أن يُمنع التنظيم المذكور من أن يصبح قوياً كحاله السابق، ربما سيكون من الصعب إزالة الأسباب المؤدّية إلى ظهوره. لكن ينبغي الحرص على ألا يصبح "داعش" مشكلة أخرى تضاف إلى مشكلات العالم الإسلامي العديدة، فلا ينبغي لنا السماح لتنظيماتٍ تستغلّ مسألة الدفاع عن النفس، وتبنّي مظالم الشعوب المكلومة في المجتمعات الإسلامية، لكنها توجّه فوهات بنادقها نحو المظلومين بدلاً من الظالمين.
كما أسلفنا، يعاني العالم الإسلامي من مشكلات داخلية وخارجية كثيرة، ولكن ينبغي له أن يحلّ هذه القضية بنفسه لتجنّب الضرر الذي تسببه مثل هذه التنظيمات الطفيلية للمسلمين بتسلّقها على قضاياهم.