هنا "السلطان أيوب"
من أيوبُ الذي سمّاه الأتراك سلطانا، وأعطوا واحدةً من مناطق إسطنبول اسمَه، فيها مسجدٌ له الاسم نفسُه أيضا؟ قد تطرُق خواطرَك رغبةٌ في معرفة الأمر، إذا مررتَ بالمنطقة الوديعة هذه، بالغة الألفة حقا، في إسطنبول. ويحدُث لصاحب هذه الكلمات، إذا ما حلّ بموقعٍ ذي أثرٍ وتاريخ، في مدينة الله، كما وصفٌ بيزنطيٌّ عتيق لإسطنبول، أو في غيرها، أن رغبةً مثل هذه تستبدّ به. ولمّا كانت هذه هي المرّة الأولى، بعد زيارات سبع سبقنَها إلى المدينة المثقلة بالتاريخ، أقيمُ في منطقة السلطان أيوب (400 ألف نسمة)، لا يصير أيوب وحدَه مثار السؤال والاستيضاح، وإنما المكان كله. ولكل منطقةٍ في إسطنبول مقطعٌ في التاريخ يخصّها، موصولٌ، بالطبع، بتاريخٍ عامٍّ للمدينة.
أيوب هو الصحابي أبو أيوب الأنصاري، الذي تقول روايةٌ إنه كان في جيش يزيد بن معاوية، لمّا كان معاوية بن أبي سفيان خليفةً (أمويا). قَصَدَ الجيشُ فتح القسطنطينية (52 هجرية، 669 ميلادية)، غير أن الرجل مرض ثم مات في المدينة في أثناء حصارها، وطلَب أن يُدفن فيها، وهو ما صار له، فكان مدفنُه قرب أسوارها. ثم خلعَ الأتراك عليه توقيرا كبيرا، وصار لضريحه، في المسجد الذي بناه لاحقا محمد الفاتح، تبجيلٌ يكاد يصل إلى منزلة التقديس. وإذ يحدّثني صديقٌ هنا إن منطقة أيوب من الحواضر المحافظة في إسطنبول، وإذ ألمس هذا رأي العين، فإني أقع في كتاب البريطاني فيليب مانسل، "القسطنطينية .. المدينة التي اشتهاها العالم" (ترجمة مصطفى محمد قاسم، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو/ تموز 2015)، على أنه "لم يكن مسموحا لغير المسلمين بأن يفتحوا دكاكين في هذه المنطقة المقدّسة". ويفيد الكتاب بأن المنطقة المحيطة بقبر الصحابي، وتحمل اسمَه أيوب، "من أقدس المواقع الإسلامية في تركيا".
يُخبر المؤلف المجتهد بأنه "من خلال تقديس الصحابي أبي أيوب، غدت القسطنطينية مدينة إسلامية مقدّسة". وبذلك، أكون أنا، هنا في فندقٍ (محافظٍ هو الآخر) في واحدٍ من منابت السمْت الإسلامي لإسطنبول، المدينة التي تتآخى فيها ألوانٌ من الحداثات الأوروبية المتنوّعة مع الأنفاس المشرقية التقليدية العديدة. وفي الوسع أن أقول إن الحيوية المُبهجة التي يضجّ بها ميدانٌ رائقٌ حوالي مسجد أيوب لا تؤشّر إلى التوصيف التام لمدينةٍ إسلاميةٍ صرف ومقدّسة، ربما لارتياد السياح المنطقة، وتردّدهم على مطاعم ومقاه كثيرة فيه (هل هناك مدينةٌ في العالم تفوق إسطنبول بعدد المطاعم فيها؟ أشكّ). ولمّا كانت المنطقة هذه على ساحلٍ قصيرٍ في جزءٍ مما يسمّى هنا "القرن الذهبي"، فإنها تُغوي بالتجوال فيها، سيما وأن ثمّة "مقهى بيير لوتي"، ويطلّ على هذا اللسان المائي، تنجذبُ إليه. وهذا اسمٌ آخر يوقظ فيك الفضول إيّاه، ثم تعرف أنه موقع المقهى الذي كان يجلس فيه الروائي الرّحالة الفرنسي بيير لوتي (1850 – 1920)، والذي كان متيّما بالشرق، شغوفا بإسطنبول التي أقام فيها زمنا، بعد جولاتٍ له في أفريقيا. وهنا لك أن تلقى في تسمية مقهى، سياحي ومنفتح، يُؤخذ له اسم كاتب فرنسي، على مقربةٍ من جامع اختير له اسم صحابي، شيئا من فرادة إسطنبول ذاتها.
تُشعرك النّتف التي تقرأ عن "السلطان أيوب" بأن هذه المنطقة التي أنشئ فيها العام 1832 مصنعٌ "إمبراطوري" للطرابيش كانت خارج إسطنبول، فأورهان باموق، في كتابه "إسطنبول، الذكريات والمدينة" (ترجمة عبد القادر عبداللي، دار الشروق، القاهرة، 2018)، يسمّيها "القرية الصغيرة الرائعة عند نهاية القرن الذهبي". ويكتُب عنها "كانت رائعة، كصورةٍ لمشهدٍ ديني غامضٍ ومنعزل وصورة للشرق الصوفي، كانت مثل حلم شخصٍ آخر، وكأنها ديزني لاند إسلامية شرقية تركية مغروسة على حافّة المدينة". يسأل باموق ما إذا كانت "أيوب" قرّرت، "بتواضع ديني صوفي، الحفاظ على مبانيها صغيرة، والبعد عن عظمة إسطنبول، وعن ..". ويسأل صاحب جائزة نوبل للآداب (2006) "ما الذي يجعل أيوب قريبةً إلى هذه الدرجة من الأحلام الغربية عن الشرق، ويجعل الجميع يحبّونها إلى هذه الدرجة؟". يكتب أيضا إن المكان كان صورةً للشرق، نقية ورائعة وجميلة.
يرجّح باموق إن هذا ما جعل بيير لوتي يعشق هذا المكان، ويشتري، في النهاية، منزلا هنا. أما ما جعل صاحب هذه السطور يختار "السلطان أيوب" لمُقامه أياما في زيارةٍ راهنة لإسطنبول، فسببٌ آخر.