هيثم المالح مختار سورية
كان المحامي السوري المعارض هيثم المالح (90 عاما)، مسترخياً إلى الحد الأقصى في أجوبته عن أسئلة الصحافي شعبان عبود على شاشة "تلفزيون سوريا"؛ كان نرجسياً. لم يحاصره الأخير جيّداً بالأسئلة. حينما سرد أخباراً عن احتجاجات النقابات في 1979 في سورية، تلك الاحتجاجات التي لا يعلم عنها السوريون كثيراً، كنّا ننتظر إعطاءه مزيدا من الوقت، ليسرد بتفصيلٍ قصة النقابات التي جاهرت برفضها سياسات النظام الشمولي. عكس ذلك، وكأنّ الحوار يتقصد الإحاطة بالرجل وليس بالتاريخ الذي نشأ فيه، وعارض النظام، وصنع شخصيته عبر ذلك؛ تلك الشخصية، التي ينتقدها معارضون سوريون كثيرون بشدة على خلفية الحوار على "قناة سوريا الفضائية" المعارضة، إذ ظهر الرجل أنانياً، ومتعصّباً و"رجعياً" في المسائل الاجتماعية، وهناك من ألصق به تهماً بالجملة، وذلك ليس من الحق بشيء.
ككل الحداثيين، لا يمكنني قبول رؤية المالح عن موقع المرأة ولباسها وزواج الصغيرات وضرورة مراعاة التقاليد المجتمعية القديمة والدينية، ولن أقول البالية، وهذا برأيه سبب لاعتقال الناشطة الحقوقية رزان زيتونة، وربما تبرير لقتلها! ولكن حينما يدافع الرجل عن هذه القضايا، لا يمكنه أن يتبنّى قضية المواطنة المتساوية للأفراد. "شيخ الحقوقيين" هنا يسقط في مادة الدفاع عن الحقوق، بما هي غير قابلة للانتقاص والتمايز بين الأفراد ولأي سببٍ كان. الحقوق في العالم المعاصر تنطلق حصراً من مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، والإقرار بأوسع شكلٍ من حقوق المرأة وليس العكس. الكلام بخصوص تعليقات هيثم المالح على الناشطة البارزة، رزان زيتونة، على يد جيش الإسلام، حين كان هذا يبسط سلطته على مدينة دوما، ويتحمّل مسؤولية اختطافها مع رفاقها. انتقد هيثم لباس رزان وعدم مراعاتها المجتمع، وحرّف في روايته عن تركها مكتبه كمحامية، وقد أظهر الباحث السوري علي العبدالله رواية مختلفة، ونشرها على صفحته في "فيسبوك"، ويوضح فيها أن المالح لم يقل الحقيقة، وكان موقفه رديئا مع رزان، ومع منظمة حقوق الإنسان التي كان يرأسها، ويستضيفها في مكتبه.
لم يتطرّق المالح إلى مشكلات المعارضة، وقد كانت له وظيفة رئيس الدائرة القانونية في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وله كتلة وجماعة في المعارضة
لم تتجاوز أجوبة المستضاف على الشاشة في حواره جوانب من تاريخه الشخصي، وكأنّه ينافس حافظ الأسد على صناعة سورية منذ قبل السبعينيات، حين كانت بعض اللافتات والجداريات تتحدّث أن الشعوب تَصنع التاريخ، بينما حافظ الأسد يصنع تاريخ سورية. هيثم المالح، وآخرون ينسجون على النول نفسه. عبر ذلك، يصبح هيثم الحقوقي الأوّل الذي يعلن إضراب نقابة المحامين في 1979، وأول من يُندّد بمنظمة طلائع "البعث"، ويرفع قضية ضد الدولة، وأهم شخصية تجوب الأرض، شرقاً وغرباً، لإخراج المعتقلين من السجون. سمّى نفسه مختار سورية في أثناء الحوار، إذ لا يمكن لسفيرٍ أو شخصية أجنبية مهمة أن تأتي إلى سورية من دون أن تزوره، وكأنّه الرئيس الظل! وتأخذ منه الحقائق الدقيقة عن أوضاع سورية.
لم يتطرّق شيخ الحقوقيين، كما سماه بعضهم، إلى مشكلات المعارضة، وقد كانت له وظيفة رئيس الدائرة القانونية في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وله كتلة وجماعة في المعارضة. ويقال أيضا، والله أعلم، إن مبالغ مالية طائلة وصلت إليه بشكل غير شرعي، ولكن ليس من تحقيق صحافي استقصائي ودقيق يؤكد هذا أو ينفيه. رجلٌ في هذا الموقع، ولديه كل تلك الخبرات القانونية والعمر الطويل والخبرة السياسية، وقد كتب مذكراتٍ عديدة بعثها إلى الرئيس بشار الأسد، قبل الثورة، لإيقاف تغول الفساد والتدخل بعمل القضاء وكفّ أيدي الأجهزة الأمنية، ويغيب عنه أن يقدّم نقداً للمعارضة، ولا سيما أن نقدها لم تعد تقوله شخصيات رافضة لمؤسسات المعارضة بعامة، بل أصبح النقد ينطلق من شخصياتٍ لعبت دوراً أساسياً فيها، كالمرحوم ميشيل كيلو، وموفق نيربية، وبرهان غليون ومئات المعارضين، والذين يقولون جميعهم إن كل مسارات المعارضة كانت فاشلة، ويجب أن تتنحّى، أو تحلّ نفسها أو يعاد تشكيلها على أسسٍ جديدة. إن وصول شخصياتٍ كأنس العبدة، الذي تشيع عنه أقوال عن ارتكابه اختلاسات مالية ومنذ إعلان دمشق! أو نصر الحريري إلى قيادة "الائتلاف" وهيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، ما هو إلّا الباب الواسع لفهم فشل المعارضة؛ فهل يراهم المالح أهلاً لتلك المناصب، وإذا كان لا فلماذا لم يتكلم، وإذا كان نعم، فبؤس عقليته القاصرة والانتهازية تلك.
النقد لدى السوريين يتخذ صيغاً توحشية في أحيان كثيرة، وهذا لا يليق بشأن من ظلمهم هيثم المالح
هناك مسائل يُنتقد عليها هذا المالح، كما حاول التوصيف أعلاه، ولكن لا يجوز المسارعة إلى وصفه بالعمالة، فهذا ليس نقدا، ولا سيما أن هذا كلام غير مقرون بوثائق. النقد لدى السوريين يتخذ صيغاً توحشية في أحيان كثيرة، وهذا لا يليق بشأن من ظلمهم هيثم المالح، ولا يسمح بمداخل جديدة للحوار أو للبحث عن قواسم مشتركة بين السوريين.
قيل للرئيس جمال عبد الناصر، حينما كانت سورية ومصر تتّحدان، إنك ستواجه شعباً صعب المراس، يرى نفسه في مصافّ الأنبياء والنوابغ وسواهم. أجوبة المالح في "تلفزيون سوريا" كانت في هذا السياق. ولكن تلك صفة عامة لدى السوريين، وهي صفة لها جانبان خطران، فمن ناحية قد يرى المرء نفسه في منزلة "إله" وقد يعامل نفسه كعبدٍ مع الآخرين؛ وهذا ما رأيناه في سلوكيات كتل كبرى في المعارضة ضد النظام، وفي التعامل مع دول وشخصيات وازنة في الخارج. السوريون معنيون بالتخلص من أمراض نفسية كبرى، وهي تتضخّم مع الهزائم. وينطلق صاحب هذه المقالة في كلامه هذا من كوارث أصبحت عليها سورية، بينما قادة في المعارضة أو النظام لا يتحسّسون ذلك، ويتابعون ممارساتهم وكأن شيئاً لم يكن؛ لاحظ مباركاتٍ من شخصياتٍ مُعارضةٍ لأنس العبدة أخيرا، وقد جُدد له في قيادة هيئة التفاوض، ولن أُشبّه هؤلاء بالمباركين لبشار الأسد وقد جُدّد لرئاسته، فالأخير يحكم بلداً، بينما أنس العبدة لا أحد يعلم ماذا يفعل بالضبط.
يستهين "شيخ الحقوقيين" بالمعارضين والمحامين الذين عملوا معه أو دافعوا عنه، فيما يفترض أن يجعله تقدّم سنّه مخضرماً بحق
يستهين "شيخ الحقوقيين" بالمعارضين والمحامين الذين عملوا معه أو دافعوا عنه، فيما يفترض أن يجعله تقدّم سنّه مخضرماً بحق، ويعطي صفاتٍ دقيقة، سلباً أو إيجاباً، إزاء هؤلاء المعارضين "الرفاق"، ويعمل من أجل تأسيس شراكةٍ كبرى مع محامين آخرين، من أجل صياغة أفكار وقضايا ومسائل قانونية يستفيد منها السوريون، وقد أصبحت بلادهم على الأرض، وهم في كل جهات الله، ومن في الداخل يعاني كل أنواع الشرور والمظالم والتعاسة.
ليس من التفكير الديمقراطي بشيءٍ الاعتراض على إجراء الحوار مع هيثم المالح أو سحب المقابلة معه! الصواب الآن أن تُوجَّه له مذكرة قضائية، حيث أبدى ملاحظة تفيد بأنه التقى بعنصرٍ من "جيش الإسلام"، وقال له إن هذا الجيش هو الذي قتل رزان زيتونة ورفاقها. كذلك يجب تفنيد آرائه بشأن قضايا كثيرة، وهذا لا يحدث بإسكاته، بل بالحوار معه، ونقد أفكاره؛ حين يفعل ذلك السوريون يبدأون برؤية بعضهم بعضاً، والتحدّث وصياغة رؤى ومشاريع وأفكار للنهوض ببلادٍ، يرى كثرٌ أنّها لم تعد بلداً واحداً.