واقع عراقي مزيّف
تلفت انتباه كلّ من يزور بغداد في هذه الأيام كثرة المطاعم الحديثة. وعلى الرغم من أن المدينة تضمّ أكثر من سبعة ونصف المليون نسمة، ويدخلها آلاف القادمين من المحافظات كلّ يوم، لا يمكن تصديق أن هذه المطاعم كلّها تحقق ربحاً. ويرى متابعون كثيرون أن بعضها يستخدم واجهات لغسل الأموال بالنسبة لبعض الأحزاب ليس إلا.
تتحكّم هذه الأحزاب والجماعات المسلّحة بكلّ مساحات العمل الاقتصادي خارج دوائر الدولة، بما فيها العمل غير المشروع أو المجرّم قانونياً، بل تُشرف هذه الأحزاب ذاتها على صالات الروليت والملاهي الليلية. وعلى الرغم من إقرار منع تجارة الخمور، إلا أن سوقها لم يتأثر بشكل كبير، وتضرّر فحسب أولئك الذين كانوا يعملون في تجارة المشروبات الكحولية، ولا يملكون "ظهراً" في السلطة!
تستطيع العثور في بعض المحلات وسط بغداد على فواكه استوائية نادرة وثمرة التنين الصينية وفواكه آسيوية غريبة، كذلك تنشط تجارة الحيوانات الأليفة بشكل أكبر مما كان معهودا سابقاً، بل ويستطيع بعضهم الحصول على أشبال أسود وقطط برّية وعديد من الحيوانات النادرة أو المحرّمة تجارتها دولياً.
في المجمل، يمكن لك أن تعثر في الأسواق العراقية على كلّ شيء، وهذا يوحي للناظر من الخارج بحياة مزدهرة، بالنسبة لأولئك الذين يملكون القوة الشرائية على الأقل، ولكنها في الحقيقة مجرّد مظاهر مزيّفة لواقع هشّ في العمق، فاقتصاد البلد قائم على راتب الموظف، فهذا الموظف هو الذي يشذّب شعرَه عند الحلّاق ويركب سيارات الأجرة، ويدخل إلى المطعم، ويشتري من الأسواق حاجاته الأساسية والإكسسوارات والكماليات. تتكئ كل الفعاليات الاقتصادية في المجتمع على راتب الموظف، والموظف يعتمد على واردات النفط، في مسار خطّي يبدأ من "كاك" النفط، وينتهي إلى النفايات الهائلة التي تنتجها المدن العراقية كلّ يوم من مخلفات المعلبات والمواد الغذائية وفضلات الطعام الزائد. وما بين المكانين (منبع النفط ومقلع النفايات) تدور حياة كاملة من الفعاليات الاقتصادية الثانوية التي لا تراكم شيئاً، وإنما هي استهلاكية حتى العظم.
تظاهر موظفون، في الأسبوع الماضي في ساحة التحرير ببغداد، للمطالبة بزيادة أجورهم. والغريب أن لا علاقة لهذه المطالبة بمستوى "الإنتاج" الذي يقدّمونه، وكونه غير متكافئ مع الأجور التي يحصلون عليها، لأنهم، في الأعم الأغلب، لا يقدّمون شيئاً، ومستوى إنتاجية الموظف العراقي هي الأدنى، قياساً ببلدان مستقرّة اقتصادياً. وفي الأفق البعيد، يمكن أن نرى بوادر تظاهراتٍ متوقعة لخرّيجي جامعات يحملون شهاداتهم بأيديهم، ويبحثون عن عمل في الدولة.
تعرف الحكومة العراقية أن طالبي العمل هم الوقود الأكثر اشتعالاً لأي تظاهرات، لهذا هي تنفق واردات النفط الحالية وجزءا من واردات النفط المستقبلي من أجل تعيين أكبر عدد ممكن من الشباب، كما أنها تحتفظ بمؤسسة عسكرية هائلة، ربما كانت مناسبة للحرب مع الإرهاب ولا تحتاج إلى هذه الأعداد الضخمة حاليا.
يعرف الجميع، في الحكومة والأحزاب المشكّلة لها وقادة الفصائل المسلّحة، أن الكارثة قادمة، وأن البلد الذي فيه ما يتجاوز نسبة الـ 60% من الشباب لن يستطيع فتح باب التوظيف الحكومي الى ما لا نهاية، وأن أي انخفاض مفاجئ في أسعار النفط يعني عجز الدولة عن دفع مرتّبات الموظفين الموجودين حالياً، وأن الحلّ في تحرير الاقتصاد العراقي من سلطة الاقتصاد الريعي (منذ سقوط النظام الملكي في العراق)، وليس في القضية أيّ لغز يصعُب فهمه، يعرف الجميع هذه الحقائق، ولكنهم غير قادرين على التفريط بمصالحهم الحالية التي تعتمد النهب لموارد الدولة، والشعب في غالبيته يتقبل الرشى، ويرى الطمأنينة في المرتّب الذي يقبضه من الدولة، حتى وإن لم يقم بأي إنتاج يوازي هذا المرتّب، والحجّة جاهزة تسمعها من كثيرين في الشارع العراقي دائماً: هذه حصّتها من النفط!