وجوه مبارك المتعدّدة
في كتابه "مبارك وزمانه... من المنصّة إلى الميدان"، يقدم الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل ما يقول إنها "ليست قصة حياة"، وإنما هو يسرد ما رآه وعرفه عن مبارك، الذي يقول إنه تحيّر من شخصيته الغامضة التي تحمل متناقضات عدة.
للوهلة الأولى يُدهش هيكل والقارئ من مدى سطحية مبارك وضآلة قدراته الفكرية، حتى أن أسامة الباز، مستشار مبارك الأثير، يحذّر هيكل قبل لقائه المنفرد الأول به، من أن يتطرّق مع مبارك إلى أي قضيةٍ فكريةٍ أو نظريةٍ فهو "يجد صعوبة في متابعة ذلك".
يُخبر مبارك هيكل إنه لم يكن يقرأ مقاله "بصراحة" لأنه لا يفهم في نهايته ما يريد الكاتب قوله، بل إنه منع كل الضباط في سلاحه من قراءته، لأنه لا يريد "الخناقات والسياسة". يتعجّب مبارك من احترام جمال عبد الناصر زعيم حزب الوفد، فؤاد سراج الدين، فقد كان يظن، برؤيته الأحادية، أنهما عدوان. وفي هذا الوقت المبكر جدا، يتحدّث مبارك باحتقار عن الصحافيين الذين يراهم "هجّاصين"، ويشكو من خلافات السياسيين ومطالب المواطنين، مؤكّداً أنه لو تعب سوف "يسلم كل شيء للقوات المسلحة ويترك الجميع ياكلوا في بعضهم"، وللمفارقة فهذا ما فعله بالضبط بعد ثلاثين عاما!
ينقل هيكل عن الكاتب الساخر محمود السعدني انطباعا مشابها، فقد جاءه مفزوعا بعد لقاء بمبارك، سأله فيه عن شعوره وهو يجلس في مقعد رمسيس وصلاح الدين ومحمد علي نفسه، فلم يستوعب مبارك السؤال، ثم نظر إلى الكرسي قائلاً: "إذا كان أعجبك هذا الكرسي خُذه معك"!
ولكنّ لمبارك وجوهاً أخرى أبعد ما تكون عن التفاهة، فلم تكن مصادفةً أن الرئيس أنور السادات اختاره نائبا له، بل يستعيد هيكل قصةً كانت تتناثر أقاويلها حول دور مبارك والسادات في اغتيال الإمام الهادي المهدي المعارض لانقلاب جعفر نميري في السودان عام 1970، بواسطة قنبلة داخل هدية من ثمار المانغو، ويوثق هيكل القصة عبر نشره وثيقة بخط سامي شرف، مستشار عبد الناصر للمعلومات، كتب فيها تفريغا لاتصال هاتفي مع السادات الذي كان يبلغه بتفاصيل العملية، ثم بتمكّن ضابط سوداني من القبض على الإمام مصابا وتركه حتى الموت.
كان لمبارك دور آخر قبل توليه الرئاسة هو التورّط في ملفّ عمولات صفقات السلاح المصرية الأميركية، حيث كلفه السادات بالتحقيق في اتهامات أميركية لرئيس الشركة الناقلة لأسلحة المساعدات الأميركية، رجل الأعمال حسين سالم، ومعه مدير مكتب المشتريات العسكرية، اللواء منير ثابت، إلا أن برقية أميركية قالت إن مبارك سوف يغطّي على التحقيق، لأن منير ثابت شقيق زوجته سوزان.
وكذلك لعب مبارك أدوارا عالمية مهمة قبل الرئاسة، فقد كلفه السادات بتمثيل مصر في "مجموعة السافاري"، وهي تجمّع لمخابرات السعودية وفرنسا والمغرب ومصر وإيران بهدف مكافحة الشيوعية في أفريقيا. ولافتٌ أن من وقّع ممثلا لمصر على وثيقة إنشاء المجموعة كان سكرتير السادات للمعلومات، أشرف مروان، قبل أن يحلّ مبارك محلّه.
وبالانتقال إلى مروان، يتحفّظ هيكل على إثبات عمالته لإسرائيل أو نفيها، وهو أسلوبٌ متكرّر خلال الكتاب، حيث يكتفي بعرض معلوماتٍ تاركاً الحكم للقارئ مع تلميحات قد يُفهم منها ضمنا موقفه. ويروي هيكل أنه لجأ للدكتور عزمي بشارة إبّان عضويته في الكنيست، وكذلك لصديقين آخرين من عرب الداخل، وعبرهم حصل على وثائق ومواد عن تحقيقات الكنيست في القضية، ليفاجأ بصور لمحاضر اجتماعات السادات ونظيره السوفييتي بريجنيف في أثناء زيارته السرية موسكو عام 1971، وهي المحاضر نفسها التي حصل عليها هيكل وقتها، أي أنها حقيقية مائة بالمائة، فضلا عن عشرات الصور من وثائق أصلية أخرى "كأن المخابرات الإسرائيلية كانت تقرأ على راحتها أوراق الرئاسة المصرية".
وبقدر ما هو مؤسفٌ أن على العرب انتظار رحيل كل زعيم ملهم (رحيلاً غير انتخابي بطبيعة الحال!) قبل أن تتكشف كواليس عهده وينطق الشهود وتظهر الوثائق، بقدر ما هو مثير للتفاؤل تصوّر حتمية انكشاف أسرار عهد هذا الزعيم أو ذاك عاجلاً أو آجلا.