وحيد حامد .. الغول والبريء
أرفض، بشكل قاطع، اتهام الراحل وحيد حامد بأنه كان يكره الإسلام ويحاربه، كما أرفض، بالقطع ذاته، تدخل البشر في حسابه، وهو بين يدي خالقه، كما أشعر بالأسى على استنزال اللعنات على الموتى الذين نختلف معهم، أو تكفيرهم، بقدر ما أندهش من تبديد الناس طاقتهم الروحية في الكراهية بشطط، والشماتة بتطرّف. ولكن ذلك كله لا يعني عدم تناول الحصاد الإبداعي والخطاب السياسي لوحيد حامد بالنقد والتقييم، والاختلاف والرفض والقبول، من دون أن ينجرف بعض الناس إلى شيطنته، أو يحاول آخرون ترقيته إلى مراتب الأنبياء والملائكة.
"الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة". نعم، كما يقال في التراث الاجتماعي الشعبي، غير أن هذا شيء، ومناقشة ما تركه من أفكار وقيم شيء آخر. وبما أن وحيد حامد، وكما يقول محبوه باقٍ بأعماله وآرائه، فلا غضاضة في الاقتراب من هذه الأفكار والأعمال، بل هذا واجب، بمنطق وحيد حامد نفسه، الذي كتب دراما تاريخية عن شخصياتٍ رحلت، ودافع عن هذا الأمر بأنه حقُّ الأجيال الجديدة في المعرفة، وكما فعل مع شخصيات مثل جمال عبد الناصر وحسن البنا وأنور السادات.
يبني خصوم وحيد حامد احتفالياتهم الشامتة بموته على فرضية أنه كان يحارب الدين الإسلامي ويكره المتدينين، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك لينعته بأنه "عدو الله" ويكفّره، وأظن أن في ذلك ظلمًا شديدًا، فالثابت أن الرجل كان متطرّفًا في كراهية "الإسلاميين" بالمفهوم السياسي والحركي .. بل أنه كان يستبد به الجموح فيعتبرهم من الخوارج عن الدين، بل ويرى نفسه ولونه السياسي والفكري هم الإسلام الصحيح، المعتدل، المتحضر، الذين يتصدّون، بأقلامهم وأفلامهم، للجمود والتطرّف والتخلف.
لست معنيًا بالخوض في هذا الكلام المنمق الذي تجده ينبعث من أفواه كثيرة، في هذا الوسط، إلى الحد الذي تجد معه إلهام شاهين تعطي دروسًا في الإيمان الحقيقي والتدين السليم، كما تجد عبد الفتاح السيسي متحدّثًا باسم الأديان كلها، ومجدّدًا للخطاب الديني الإسلامي، وهو ما تجده كذلك مع وقحين ووقحات، لا يعجبهم شيخ الأزهر الحالي، وينادون بإزاحته، حتى وصلنا إلى الدرك الأسفل من القاع، وصارت ممثلة فقيرة الموهبة والمعرفة، تستعمل النصوص الدينية لتبرير تعمّدها إظهار مؤخرتها بالقول "وأما بنعمة ربك فحدث".
الشاهد أن استهداف وحيد حامد بالتكفير ومعاداة الإسلام فيه إجحافٌ كثير، كما أنه لا يخدم أحدًا إلا ذلك التيار المستبد، في السياسة وفي الفن والأدب، حيث يفرغ المسألة من مضامينها الحقيقية، ويمنح بعض السفلة والأوغاد فرصةً لانتحال شخصية الوعاظ والمصلحين ليردّدوا ببراءة مصطنعة: انظر! هؤلاء الشامتون غلاظ القلوب يكفرون الناس ويدخلونهم النار على هواهم ويمنعون رحمة الله الواسعة ويحتكرون الإيمان لأنفسهم .. هؤلاء يستحقون ما جرى لهم من قتل وحرق ونفي وسجن.
بينما يغيب الموضوع الأصلي في التقييم، وهو أن الراحل وحيد حامد (رحمه الله) هو أحد الذين أنفقوا سنواتٍ من عمرهم في إشاعة مناخ من الفاشية في مصر، وأحد الذين مارسوا التنظير والحشد والتحريض على ممارساتٍ أقرب إلى"الهولوكوست" ضد المختلفين سياسيًا وفكريًا، وأحد مهندسي الجدران العازلة بين فئات المجتمع الواحد، بتبنّيه خطابًا هو مزيج من الفاشية والنازية والمكارثية، ضد كل معارضي انقلاب عبد الفتاح السيسي، الذين هم جميعًا، حسب رأيه وقوله، من الإخوان، وبالتالي يجب استئصالهم، وإقصاؤهم، بطريقة لا تبتعد كثيرًا عن سياسات الترانسفير الصهيونية التي سبقت احتلال فلسطين.
هذا التنظير الموغل في عنصريته كان تمهيدًا لحالة توحش تشريعية وأمنية، تستبيح كل معارض أو معترض، باعتباره من الإخوان، الذين هم أعداء الوطن، لا يستحقون الحياة على هذه الأرض، ولا تجوز عليهم الرحمة بعد موتهم، والأخطر أن ذلك وفر الغطاء لكل فاشل وكل فاسد، لكي يهرب بجرائمه، من خلال اتهام كل من يكشف هذه الجرائم بأنه من "أعداء الوطن"، بحسب منطق جندي الأمن المركزي الذي كان يمارس التنكيل بالمعارضين المسجونين ممتلئًا بمشاعر وطنية هادرة، فخورًا بأنه يحمي الوطن.
شاهدت حلقتين للراحل وحيد حامد، يهاجم فيهما بضراوة كلًا من عماد الدين أديب، ومحمود سعد، ويتهمهما بموالاة الإخوان والإرهابيين، لأنهما اقترحا حوارًا مجتمعيًا حقيقيًا مع المعارضين للانقلاب. ووجدته يوبخ محمود سعد ويعنفه لأنه أبدى بعض التعاطف مع "معتقلي الشورى" عام 2014 من شباب ثورة يناير، علاء عبد الفتاح وغيره، ممن يصنفهم وحيد حامد ضمن "عفريت النشطاء" المموّل من الخارج والمتآمر على الوطن، والذين كان يعتبر الحوار معهم والاستماع لهم خيانة وجريمة في حق البلاد، وأن لا حل مع الإخوان والذين كانوا إخوانًا، أو يتعاطفون معهم بعد قتلهم وحرقهم أحياء، سوى الإقصاء والاستئصال والإبادة.
هذا الخطاب الفاشي المفرط في توحشه ينبغي أن يكون المدخل في تناول تركة وحيد حامد السياسية، والتي تجعل منه البذرة الفكرية التي طرحت كمياتٍ هائلة من الفاشيست في الإعلام والفن، تدعو إلى مواصلة المحرقة الدائرة في المجتمع المصري منذ سبع سنوات.
وحيد حامد، هو أحد "الصنايعية" الكبار في مجال الدراما السينمائية المبهرة، الرائعة بمقاييس الفن.. لكنه أحد صناع المفرمة، أو المعجنة، أو المحرقة الاجتماعية المفجعة، بمقاييس الإنسانية.
كان مبدعًا كبيرًا، وفاشيًا كبيرًا أيضًا، أمتعنا بالكتابة السينمائية.. وأوجعنا بأداء دور المكارثي الأول والاستئصالي الأول، قدم لنا البريء (أحمد زكي) على الشاشة.. لكنه انحاز إلى الضابط السادي الذي عذّب البريء، وقرّر أن يكون في خدمة (الغول) الذي التهم كل الأبرياء على أرض الواقع.
باختصار، وحيد حامد كان مع الإنسانية في الدراما، وضد الإنسانية في الواقع.. سامحه الله.