15 نوفمبر 2024
وردة إلى خليل النعيمي
جاء مفرحا لقرّاء الكاتب والروائي السوري، خليل النعيمي، والمقيمين في جمهورية محبّته صديقا للجميع، أنه نال أخيرا جائزة محمود درويش للحرية والإبداع، مع الأسيرة عهد التميمي ومسرح الحكواتي الفلسطيني في القدس. ومصدر الغبطة بهذا الخبر المبهج ليس فقط أنه من نوعٍ شحيحٍ من الأخبار في زمن السخافة الذي نعيش، وإنما لحزمةٍ من الأسباب، أحدُها أن لجنة الجائزة، برئاسة الناقد فيصل دراج، أصابت مُرادها تماما، فنتاج الصديق خليل النعيمي تتوفر فيه "قيم الإبداع الثقافي الفنية والوطنية والإنسانية"، إضافةً إلى "تكريس قيم العقلانية، والديمقراطية والحرية والتنوير التي يتميز بها شعر محمود درويش"، وهذه من استحقاقاتٍ واجبةٍ لمن يُمنح الجائزة. ولا تزيّد في هذا القول، ذلك أن التجريب الجمالي، والتركيبي، حاضرٌ في أعمال خليل النعيمي الروائية، وكذلك نصوص الرحلات الفاتنة التي كتبها بمزاجٍ عالي القيمة، فضلا عن أن الصنيع الفني في مجمل أعماله يتوازى مع مقادير ليست هيّنةً فيها من التأمل الفلسفي، وأحيانا بمقادير ظاهرة من البعد الذهني. وليست فقط دراسة النعيمي الفلسفة ومطالعاته الحرّة فيها ما جعل لنصوصه هذه الميزة، وإنما أيضا القناعةُ التي يقيم عليها بالحرية والتنوير والعقلانية، ما يجعل أدبَه عموما في خانة النصوص الإبداعية العربية التي تنتسبُ إلى الأفق الإنساني الخالص، إلى الأدب المضاد، المناهض لكل خنقٍ أو اختناق، والمناوئ لكل مصادرة للعقل واعتقاله. وكما يتقن خليل النعيمي عمله طبيبا جرّاحا في باريس منذ عقود، ما يؤشر إلى ذهنه العلمي المحكم، يتقن سردَه الحر عمّا تجولُ فيه عيناه، ويجوسُ في باله ووجدانه، سيما عن الأمكنة وظلالها وأنفاسها. ولذلك حازت نصوصٌ عن رحلاتٍ له في جغرافياتٍ متنوعة، (في الهند مثلا)، فرادَتها الحاذقة.
ومن أسبابٍ غزيرةٍ للبهجة في منح هذه الجائزة الفلسطينية، ذات البعد العربي والوجه الإنساني (فاز بها كتاب عالميون وتضم لجنُتها كتابا عربا)، للروائي والناثر البديع، خليل النعيمي، أنها تُمنح لمن يُختارون فائزين بها، ولا يتقدّم لها متنافسون. ومن هذه الأسباب أيضا أن كاتبنا طالما ألحّ على الدعوة إلى استحداث "حركةٍ من أجل أدبٍ بلا جوائز"، صدورا عن وجهة نظرٍ لديه، ساخطةٍ على الجوائز العربية الكثيرة التي يتنافس عليها كتابٌ وأدباءُ عربٌ في مواسمها السنوية. ومع ما قد يكون، في وجهة نظره هذه، من شطط، قليلٍ أو كثير، إلا أنها تبقى اجتهادا محلّ تقدير. ولم يكن خليل النعيمي ليرفض الجائزة التي كرّمته فلسطين بها، سيما وأنها تحمل اسم الشاعر محمود درويش، وإن لجنةً محترمةً اختارته لها، ما يعني أنه لم يخدش دعوته تلك، ولا قناعَته ضد "جوائز تسويق الجهل وتعميم الأمية الأدبية، وتشتيت التركيز على الجوهر"، كما كتب مرة.
أما البادرة الرائعة التي فاجأ بها الحالة الثقافية العربية، وأعني تبرّعه بالقيمة المادية للجائزة (25 ألف دولار) لنادي الأسير الفلسطيني، فإن خليل، في جلال إبداعه هذا، يؤكّد إخلاصه لقيمة الحرية. وعندما يقول إن تبرّعه هذا هو "أقلّ ما يمكن أن يقدّم أمام التضحيات التي يقوم بها الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الاستيطاني"، فإن كاتبنا، في سمو روحه هذا وأناقة ضميره، يستحقّ ألف وردةٍ ووردة، سيما وأنه ينتسب إلى أفق الثورة السورية التي هتف شعبُها مطالبا بالتحرّر من الاستبداد، فكان واحدا من أبدع الأدباء الذين عملوا على صيانة هتاف هذا الشعب وشجاه وأساه. ولذلك، فإن هديةً للأسرى الفلسطينيين، من كاتبٍ سوريٍّ كبير من قماشة خليل النعيمي الباذخة، هي ذات قيمةٍ غزيرة المعاني والظلال. ذلك أنها، في واحدٍ من وجوهها، تنطق بأن الشعب السوري، في محنته الراهنة، لا يُغمض عينيه عن صنوه الشعب الفلسطيني. لم يقل خليل النعيمي شيئا من هذا في كلمته الموجزة، في حفل تكريمه في جمعية نادي الأسير الفلسطيني في رام الله، وإنما في الوسع أن نراها تجهر بهذا المغزى.
يُقاوم خليل النعيمي، في أدبه، الرداءة الوفيرة، كما فعل في "الخلعاء" وغيرها. ويقاوم ما يراها شطاراتٍ بائسةً في المشهد الثقافي العربي، كما يفعل في مقالاته. ويُبدع في معادلة الأدب والحرية، سوريا وفلسطينيا، عندما يلتفت إلى العتمة التي يُغالبها كل أسيرٍ فلسطيني، مدفوعا بانحيازه الخالص إلى حرية كل سوري.. هي وردةٌ نقطفها من بستان المحبة، ثم نرميها إلى خليل النعيمي.