وزن سمكة الجيذر
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
جرّبت هذه المرّة أن أشتري السمك من قلب المول التجاري كارفور (في مسقط)، ولم أكن أفعل ذلك من قبل في غير أسواق السمك الشعبية المفتوحة، سواء في السيب أو مطرح.
اخترتُ سمكة "جيذر"، فوُزِنَت وحُدِّد سعرها، ثم حان وقت تقطيعها إلى شرائح. هذا الفعل كان يقوم به في ساحلي السيب ومطرح قمّاطون مهرة (القمّاط: مقطّع السمك). تتحرّك السكّين برشاقة بين أصابعهم، وأجسادهم ترقص وهم يقطعون السمك. ومنهم، من فرط مهارته، يشتغل بحديث جادّ مع جاره بسكّينه الحادة. ولكن ما حدث أمامي في "المول" مختلف. كان الذي يقطع السمك شابّاً عربياً، لم أتبيّن جنسيّته، فحين حادثني اجتهد ليستخدم لهجة وسطى لا تخلو من محاولات نطقٍ بكلماتٍ عُمانية. لذلك صعُب عليّ تحديد مقام طفولته، على اعتبار أن الوطن هو مقام الطفولة. وحين بدأ بالتقطيع، جرح يده من أول ضربتين، رغم أنه كان يرتدي قفّازاً. اختفى من المشهد راكضًا إلى جهة ما في "المول" لكي يعالج يده الجريحة، فتسلّم زمام التقطيع شابٌّ هندي. هنا سافرتُ بخيالي إلى قمّاطي السمك الشعبيين في ساحلي مطرح والسيب.
هل يمكن أن تكون هناك شهادة عليا في تقطيع السمك؟ إذا كان الأمر كذلك، فهؤلاء الشباب هناك أول من سيحصل عليها. ليست حِرفة تقطيع السمك مرنة أو خفيفة، كما تتبدّى في الأسواق الشعبية لعبةً في الأيادي مقرونة بالسهو، وهناك يتوارث القمّاطون حتى السكاكين الحادّة وطاولات التقطيع، فضلاً عن تلك الدقّة في اللعب، وتحويل، خلال دقائق قليلة، سمكة كاملة إلى قطع وشرائح. وفي هذه الأماكن المفتوحة قرب البحر، يكون الصوت عادةً عالياً، والقفشات الضاحكة تُتقاذَف هنا وهناك، وكأننا أمام آلات إضحاكٍ تتجدّد كل يوم ولحظة. يصرُخ أحدُهم مُطلقاً لقباً لزميله البعيد، فيردّ عليه الآخر بكلمة، ويعلو الضحك الذي سيشارك فيه حتى الزبائن الموجودون بالمصادفة، كذلك يمكنك أن تشهد عراكاً كلامياً حادّاً وسُباباً.
تسلمت كيس سمكة الجيذر، كم كان خفيفاً قياساً بوزنه السابق، لقد اختفى نصف السمكة بلا رجعة، بين عظام وما فرّط فيه بسبب قلة المهارة، فقلت في نفسي: قمّاط عن قمّاط يفرق.
سيحتاج الشابّان، العربي ثم الهندي، إلى وقت طويل، حتى تتسلل مهارة القمّاطين إلى أصابعهما، أو إلى ورشة في تقطيع السمك على يد المهرة في السواحل المفتوحة قرب البحار.
بعد هذه التجربة، لا يمكنني الاستهانة بهذه المهنة، بل سأوليها حقّها من التقدير، فقمّاط ماهر لا يقلّ أهمية عن حاصل على شهادة في أي مجال. إنه الوصول بالتخصّص إلى ذروته؛ إلى تلك الحدود العليا للّعب بين السكّين والسمكة.
وقفتُ في طابور الدفع. في هذه اللحظة، ستكون القطعة النقدية (خمسون بيسة) بطلة المشهد. أب عربي مع ابنته تعطل وهو يبحث عن خمسين بيسة طلبها منه المحاسب. أسعفتُه بأن أخرجت قطعة الخمسين من قاع جيبي، وقلت للذي خلفي مازحاً: "إذا احتجت إلى خمسين بيسة عليك أن تُسعفني"، فأجابني مستجيباً للمزحة: "أخاف أنه حتى أنا ما عندي خمسين بيسة".
يمكن أن أتحدّث هنا عن القيمة الأخرى لهذه الخمسين المعدنية. إنها تحمل إشارة جازمة بأنه لا توجد أي أنواع من المجادلات في هذه "المولات" العصرية المتجهمة، فخمسون بيسة يجب أن يوجدها المحاسب أو يُسعفه بها المشتري. بخلاف حياة الدكاكين (بدأت تختفي من يومياتنا لتستقر في الخريطة البعيدة للذاكرة)، حيث تفتح مجالاً للهامش تلخّصها عبارة "كم آخر؟". في هذه اللحظات بين الشد والجذب، يتدفّق حديث طويل بين البائع والمشتري. لا يمكنك أن تنطق بعبارة "كم آخر؟" في "المولات" العصرية، فهذه العبارة التي هي مفتاح كل حوار في الدكاكين الشعبية اختفت، ولم يعد لها وجود، فالأسعار مثبتة في كل سلعة، بينما في الدكاكين لا توجد الأسعار إلا في رأس البائع.
حين وصل دوري في الدفع، سألتُ المحاسب: "كم آخر؟"، ولا يمكنه إلا أن يردّ بالضحك وليس بالكلام. وإذا تلفتُّ خلفي، يمكنني أن أرى امرأة عابسة، فليس هنا مكان عبارتي الساذجة أو زمانها، وما إطلاقها في هذه اللحظة إلا من باب البحث عن حديثٍ لا يأتي.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية