وسائل التواصل وصناعة الاكتئاب وتدني تقدير الذات
يختار كثيرون، من الجنسين، وفي كل الأعمار، الهروب من مشكلاتهم ومن الوحدة، وأحياناً من الاكتئاب، بإلقاء أنفسهم في وسائل التواصل الاجتماعي، بحثاً عن الاهتمام أو الحب، وربما التعويض عما يفتقدونه مع شركاء الحياة. ويثبت الواقع والدراسات أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت "بضراوة" في زيادة معدلات الاكتئاب. فيما لا يُنكر أن لها دوراً إيجابياً؛ كتحقيق "بعض" التواصل الإيجابي مع الأصدقاء والأهل المغتربين، ومتابعة سريعة لما يحدث في العالم مع بعض الفوائد بالتعليم والتسويق وغيرها. والمؤكّد أنها كالرمال الناعمة التي "تجذب" من يختار التعامل معها، باعتبارها منفذاً للتنفيس وللأمان وللشعور بالذات؛ "فتبتلعه" بقسوة، ولا يتنبه لذلك، وكثيراً ما يرفض التنبه، ويقاوم النصائح التي تحذّره من الإفراط في التعامل معها. وقد يعادي من ينصحه، وربما اتهمه "بالغيرة" من وجوده الزائد على منصات التواصل الاجتماعي.
تمنح هذه الوسائل مستخدمها شعوراً "زائفاً" بالسيطرة؛ فهو يستطيع وقتما يرغب كتابة ما يشاء باسمه، أو باسم مستعار، رأيه بكل ما في الحياة، بدءاً بأنواع الطعام ومروراً بالمسلسلات التليفزيونية والمباريات، وانتهاءً بالأحداث السياسية في بلده وفي العالم، وهي سيطرة زائفة، لأنها بلا نتائج "ملموسة" على أرض الواقع، وكثيراً ما تدفع بعضهم إلى تبنّي آراء تخالف معتقداتهم، سعياً وراء حصد الإعجاب، أو جلباً لمناقشاتٍ وسجالاتٍ "يسعدون" بها بعض الوقت، لأنها تمنحهم الشعور بالأهمية. وكما قال أحدهم: لا يهمني أن يشتمني الآخرون أو يمتدحوني؛ فالأهم أن أكون موجوداً (!). وفاته أن الوجود "الذكي" والإيجابي بالحياة لا بد أن يرتبط بالكيف وليس بالكم، وأن يضيف لصاحبه ولا يخصم منه، ويتحقق به ويتنفس التقدير "الحقيقي" لذاته، وينمو داخله ولو ببطء، ولا يكون مثل قرص الفوّار الذي ينتهي فورانه بعد ذوبان القرص.
من "يفتش" عن تقدير نفسه بفعل المستحيل لحصد الإعجاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي يشعر بمتعة "مؤقتة"، يعقبها إجهاد نفسي وذهني
من "يفتش" عن تقدير نفسه بفعل المستحيل لحصد الإعجاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي يشعر بمتعة "مؤقتة"، يعقبها إجهاد نفسي وذهني؛ فسرعان ما يواصل "اللهاث" للبحث عن الجديد لإرضاء متابعيه الذين يثق بأنهم لا يخلصون له، ويعتبرونه "شيئاً" للتسلية؛ فهو مجرّد اسم أضافوه إلى صفحاتهم أو تابعوه، ولا يعنيهم أمره بشيء، لذا يبالغون بالتعاطف "الكاذب" معه عندما يكتب للتنفيس. ولا يعرف أنه "يعرّي" نفسه نفسياً وعاطفياً أمام الجميع، وأن هناك من قد يستغله (والكلام للجنسين). والأسوأ أنه يظهر نقاط ضعفه للملأ، ما يجعله لا يرغب في مقاومتها، وقد يصل به الأمر إلى الاعتزاز بها وكأنها مزايا وليست ضعفاً يجب الانتباه إليه، وعدم السماح له بالسيطرة على حياته.
يستمدّ بعضهم، من الجنسين، تقديره لنفسه، مما يحصد من اهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي. ولا يقتصر ذلك على "الإفراط" في نشر صور "السيلفي" بأوضاع مبتكرة، ولا في أماكن التنزه، وبتناول الطعام الفاخر، ويشمل أيضاً الحكايات الشخصية جداً، وبعضها يضم مبالغات وحكايات مختلقة؛ رغبةً بلفت الأنظار، ويفوز بها أحياناً ويفشل مرّات؛ وتتراكم "خيبات" الأمل وتزرع المرارة، وترسخ بذور الاكتئاب الخفي، وتدفع صاحبها إلى مزيدٍ من "التعرّي النفسي" وبعثرة أسراره الخاصة؛ وكأنه يدور في دائرة "لعينة"، أو كأنه "سيزيف" الذي حلت عليه اللعنة بحمل صخرةٍ إلى أعلى، ثم الهبوط بها، وتكرار ذلك، ما يستنزفه نفسياً وجسدياً.
نعرف جميعنا من تغيرت علاقاتهم بشركاء الحياة بعد "استغراقهم" في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فبعضهم اكتفى بما "يراه" إشباعاً نفسياً من هذه الوسائل، وقلل علاقاته الاجتماعية إلى أقل ما يمكنه؛ وخسر "الونس" الحقيقي، واكتفى بقشور العلاقات، وربما وجدها مجانيةً بلا مسؤوليات، وهذا خطأ شائع؛ فلا شيء في الحياة مجاني. ومن يكتفي بالتواصل غير الواقعي يتناسى أنه يدفع ثمناً غالياً، وهو جزء من عمره، ولن يعوضه مقابل كلمات مجاملة "يلقيها" بعضهم له في أثناء أوقات فراغهم.
هناك من لا يكتفي "بتوقع" الفوز بتعاملاتٍ أفضل من شركاء حياته في الأسرة وفي العمل، لتزايد وجوده في وسائل التواصل الاجتماعي؛ بل "يطالبهم" بذلك وكأنه أصبح نجم النجوم. وبالطبع، لا يحصل عليه، ليس لأنهم سيئون؛ ولكن لأنه لا يعطيهم "في الواقع" ما يجعلهم يرحبون بمنحه المزيد، ويدخل في دوامةٍ من الشعور بعدم التقدير منهم، ويتنامى الغضب داخله، ويترجم ذلك بتصرفاتٍ عدائية، تتسبب بإفساد علاقاته، ما يدخله في دوائر الاكتئاب.
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة مساحات "التصحّر"، وليس فقط الجفاف العاطفي؛ بعد الاعتماد المتزايد عليها في التهنئة بالمناسبات السعيدة وبالمواساة عند المرض والموت
ولعل أسوأ عدو لتقدير الذات المقارنة بالآخرين؛ وقد زاد هذا "وتوحش" مع كثرة التعرّض لوسائل التواصل الاجتماعي، وكثرة الصور والمنشورات التي "تفيض" بنجاح أصحابها وسعادتهم وتمتعهم بالرفاهية وبتدليل شركاء الحياة، وكأنهم "يطيرون" في سماوات الفرح، ويصدّقها بعضهم، ويرغب آخرون في تصديقها ويرفضها القليلون الذي يدركون جيداً أن السعيد والناجح "بحق" لا يستعرض ذلك على الملأ، وأن خلف هذه المبالغات شعوراً بالنقص والرغبة إلى لفت الأنظار.
يدفع كثيرون ثمن تصديق هذه المنشورات؛ فتقلّ ثقتهم بأنفسهم، ليقينهم بأنهم لن يصلوا يوماً إلى ما يقرب من هؤلاء "السوبر"، ويتدنى تقديرهم ذواتهم، ما يؤثر بالسلب على منسوب الرضا عن الحياة لديهم، وهو أوكسجين السعادة وصانع الصحة النفسية التي تؤثر أيضاً على العلاقات الاجتماعية، والنجاح في العمل والصحة الجسدية، ويجعله "فريسة" سهلة لأقرب مشكلة تواجهه لتلقي به إلى الاكتئاب.
وتعزز المبالغة في النشر عن المشكلات الأسرية والعاطفية والخيانات ومشكلات التحرّش وكل أشكال الوجع الإنساني الشعور بالإحباط، وكأننا نعيش في غابة؛ مع ملاحظة الميل لدى كثيرين إلى نشر الأحداث المؤلمة، وكأن لسان الواحد منهم يقول لنفسه: أنا أفضل حالاً من هؤلاء، ويتجاهل أنه ينشر المشاعر السلبية، ويحرم نفسه من السعي إلى أن يكون أفضل، ودوماً الاكتفاء بما نحن فيه من دون السعي، بجدية وبمثابرة، يعد خيانة للنفس، ويصنع التراجع بالحياة، ومن ثم الاكتئاب وتدنّي تقدير الذات، فإن لم نزد سننقص، وهذا ما يؤكده الواقع... ونؤذي أنفسنا بمتابعة المنشورات الحزينة، والتي تتضمن قدراً ملحوظاً من المبالغات "المتعمّدة"؛ للتأثير على المتلقين ولحصد الإعجاب ولزيادة "فرص" النقل.
لعل أسوأ عدو لتقدير الذات المقارنة بالآخرين؛ وقد زاد هذا "وتوحش" مع كثرة التعرّض لوسائل التواصل
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة مساحات "التصحّر"، وليس فقط الجفاف العاطفي؛ بعد الاعتماد المتزايد عليها في التهنئة بالمناسبات السعيدة وبالمواساة عند المرض والموت؛ بكلماتٍ تقليديةٍ بلا حياة، وتخلو من أي "خصوصية" لمن يمر بالموقف، وكأنها ورود بلاستيك. ويحرم الوقت الطويل الذي يقضيه متصفح هذه الوسائل من الاهتمام بعمله، وهواياته، وعلاقاته، فيتراجع فيها، ما يوقعه بمشكلات تجعله يخسر. والخاسر هو دوماً "مرشح" للاكتئاب، إن لم ينتبه، ويسارع إلى إيقاف الخسائر، ومعرفة دوره فيها وتعويض "نفسه" عنها، وهو ما لا يرغب بعضهم في فعله، ويلقون اللوم على الآخرين، فيصنعون خسائرهم بأيديهم، ويضاعفونها أيضاً؛ ولا ترحم الحياة من يفعل ذلك.
يخذل نفسه من يجعل وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً عن "إنجاح" علاقاته الواقعية ما استطاع. ويحسن هنا التنبيه إلى خطأ شائع؛ وهو منح الثقة للغرباء، فهذا يورّط في متاعب وفقدان الثقة بالناس وتراجع تقدير الذات.
وتتسبب كثرة التواصل الاجتماعي بالكسل وقلة الحركة، وتراجع "الرغبة" في ممارسة الرياضة، وفي تخصيص أوقات للهوايات والعناية بالنفس، وتراجع الاهتمام بالمظهر، أو صنع إنجازات ترضي صاحبها وتسعده، وتنامي مشاعر سلبية، كالشعور بالوحدة والغيرة، بعد المقارنة بمن "يرونهم" أفضل وأسعد منهم، وكراهية الواقع ورفض "يتنامى" لشركاء الحياة ومعاملتهم بسوء، ما يؤدّي إلى تعكير العلاقات.
تجعل كثيرين، من الجنسين، غير راضين عن حياتهم، وتصنع المزاج السيئ، وسرعة الانفعال والانسحاب الاجتماعي
وأثبتت الدراسات أن هذه الوسائل تجعل كثيرين، من الجنسين، غير راضين عن حياتهم، وتصنع المزاج السيئ، وسرعة الانفعال والانسحاب الاجتماعي، وتصديق الصور المثالية التي يقدّمها بعضهم عن حياته، ومقارنتها بحياة الإنسان وبحياة شركائه في الحياة؛ فيزرع السخط عن حياته ويحس بالدونية ويصنع أوجاعه النفسية بيديه. وثمّة خطر فقدان الثقة بالنفس والتعرض للسخرية وأحياناً للتنمر، ما يفسد الصورة الذاتية للإنسان، ويجعله في حالة "جوع" نفسي مؤلم، وسعي إلى الفوز بموافقة الناس على مظهره أو صورته، أو ربط ذلك بقيمته، وفعل ما يقلل من رضاه "الحقيقي" عن نفسه ليفوز بذلك. والمشكلة أنها تزيد من صعوبة تعاملاتنا مع الناس، وتجعل بعضهم يبالغون في الحساسية الزائدة وفي رفض أي ملاحظات تفيده.
يعرّض نفسه للاكتئاب من يُفرط في متابعة الآخرين عبر وسائل التواصل، وصدق القائل: "من راقب الناس مات همّاً"؛ فالمراقبة لا تتسبب فقط بالشعور بالغيرة، وربما الحسد، ولكنها أيضاً تؤدي إلى الغضب من رؤية ما يرفضه. والأذكى "ادّخار" العمر والطاقات والمشاعر لما يفيده، والنأي عن الغباوات والمضايقات التي لا تخلو منها أي حياة في الواقع، ولا حاجة لنا بزيادتها.. أليس كذلك؟
كلما زادت الأوقات التي نقضيها على وسائل التواصل الاجتماعي تراجعت الثقة بالنفس، وضعفت الهمة لتحسين الحياة. ولترشيد استخدامها "ذكّر" نفسك بأضرارها، وأوجد البدائل التي تحبها، حتى لا تعود إليها بحكم الاعتياد. وكافئ نفسك معنوياً ومادياً كلما أحرزت أي تقدّم، ولو كان قليلاً. واذا تراجعت؛ لا تقل أبداً إنه لا فائدة، وابتسم لنفسك بحب واحترام، وقل: لا بأس سأبدأ من جديد.