وطنيّة ما بعد تيران وصنافير وما قبلها
ليست الوطنية أن تحافظ، فقط، على الوطن بحدوده الجغرافية، وسلامة أراضيه، بل أن تفعل ذلك، بالقدر ذاته، والوضوح عينه، في المحافظة على الحدود الإنسانية للوطن، وضمان سلامة قواه الأخلاقية والعقلية.
الوطنية الحقة هي العدل، من دون الاستسلام لغواية الفرصة العابرة، ولوثة الانتهازية الخاطفة، والدخول في تحالفاتٍ ومواءمات، غير أخلاقية، وصولاً إلى غايات، تراها أخلاقية ومستحقة.
الوطن هو الإنسان، كما هو الأرض والحدود، ولا يكون بخير إذا كان أحدهما ليس بخير، كما تظل الوطنية منقوصةً، ما بقيت الإنسانية مهانةً ومهدرة.
في معسكر السلطة، لا وجود، أو اعتبار، للإنسان من الأساس، فهذا شأن النظم المستبدة، عبر العصور، يموت البشر كي يبقى الشجر، مصدراً طبيعياً لصناعة كرسي الحاكم، وتدفئة مقر الحكم، ورفع صور الزعيم فوق أغصانه.
قالوا لك: ليس مهماً أن تحيا بكرامة، وتعيش في حدود الأمان الاقتصادي والاجتماعي، كي لا يهتزّ الوطن، وتهدّد وحدة أراضيه، واستقراره الجغرافي، ثم كانوا هم من أول قرّر أن يقطع خريطة الوطن، ويبيع منها، لمن يدفع ما يكفي للإنفاق على السلطة المهيمنة على مقدّرات الوطن.
حدّثوك كثيراً عن الخونة والعملاء والطابور الخامس الذين ينخرون في عظام الوطن من داخله، ثم تكشف الأيام أنهم هم السرطان الذي ينهش جسد الوطن، ويتغذّى على لحم المواطن الحي، ولا يمنعون في تحويل الوطن والمواطن معاً إلى مصدر للتربّح والثراء، ثم يقولون لك إن هذا هو المعنى الصحيح للتنمية!
وما ينطبق على السلطة يسري على المعارضة، باختلاف درجاتها، وألوانها، من الصريح إلى الباهت المائع، تبقى الوطنية منقوصةً إن تغاضت عن تقطيع خرائط الوطن الإنسانية، واستبسلت في الدفاع عن الخرائط الجغرافية، وتتحوّل هذه الوطنية إلى شيءٍ قريبٍ من وطنية مصطفى موسى وبكري، عندما توافق على المبدأ ذاته: تصفية وإبادة كل الذين يعتبرونهم عقباتٍ تعرقل انطلاقة الوطن الذين احتكروا لأنفسهم حق رسم ملامحه وخرائطه وتعيين حدوده.
من هنا، قلت، وأكرّر، أن المشكلة مع نظام عبد الفتاح السيسي تتجاوز تفريطه في خرائط الوطن الجغرافية، إلى انتهاك حدوده الإنسانية، والاعتداء على حقوق أبنائه الديمقراطية والاجتماعية. وعليه، جميل جداً هذا الاحتشاد ضد تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير، والاحتفاء بالحكم التاريخي للقضاء الإداري.. هذا انتصار لقوى المجتمع الحية، لكنه يبقى مشوباً بالنقصان، إنْ لم يكن احتشادنا من أجل قدسية حياة المواطن، معادلاً لاحتشادنا من أجل قدسية الأرض والحدود.
صكّ نظام عبد الفتاح السيسي، منذ البداية، تعريفاً فاسداً للوطنية، بشقيها الإنساني والسياسي، عندما قرّر أن يسلخ شريحة كبيرة من المجتمع، ويعتمدها عدواً لبقية المجتمع، وسط تصفيقٍ حاد، وتحريض أكثر حدّة، أحياناً، من أنبياء وطنية الخرائط هذه الأيام.. وسياسياً كان ما يجري على ألسنة عناصر دولة السيسي، من سياسيين لا يتوّرعون عن المجاهرة بأن مصر الجديدة ينبغي أن تبتعد عن الفلسطينيين وتقترب من "إسرائيل"، لأن في ذلك مصلحتها، بل وتسمع نعيقاً يومياً عن "غزة العدو" و"إسرائيل الحليف" من دون أن يخرج تصريح رسمي واحد يردّ على هذا الهراء.
امتداداً لهذه الوطنية الفاسدة، يواصل عماد الدين أديب إبداعاته التي بدأها في حربه الضروس، جندياً مخلصاً لأجهزة الثورة المضادة، فبراير/ شباط 2011، تحريضاً وطعناً في ميدان التحرير، متهماً حركة حماس باختراقه وإدارته.
وبالأمس، يستأنف أديب قصف الميدان بأسلحة الوطنية الرديئة، استباقاً لذكرى الثورة، فيكتب" دون لفّ أو دوران نقول إن حركة حماس منذ نهايات عام 2010 تمثل تهديداً صريحاً لمصر، بمعنى أنها تهدّد الحدود، وتهدّد أمن سيناء، وتعبث بالأمن الداخلى فى البلاد".
ويستدعي هرطقاته الأمنية العتيقة، عن العلاقة بين حماس وثورة يناير، فيواصل القول، بيقين الوطنية التي تعجب الصهاينة "من الثابت أن "حماس" أدخلت قوات خاصة ساهمت فى مهاجمة سجون وأقسام شرطة أثناء يناير 2011. ومن الثابت أن "حماس" أدخلت قنّاصة كانوا على أسطح مبانٍ فى ميدان التحرير، كما جاء فى شهادة اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية الذى كان موجوداً فى ميدان التحرير".
لا تسأل كيف استقر في ضمير السيد أديب، الواسع جداً، أن كل هذا الهراء "من الثابت"، وتزداد الدهشة أكثر حين تعلم أن النظام الذي يعبّر السيد أديب عن بعض أجنحته يستقبل قادة "حماس"، ويجري مباحثات معهم، وحرص على التواصل معهم، بشكل دائم، كي ينفض عن نفسه غبار علاقته المشينة مع العدو الصهيوني.