وليد الخالدي ... المؤرّخ الصارم وصانع الأفكار وباني المؤسّسات
وليد الخالدي أحد أبرز أعلام الأسرة الخالدية في القدس، بل لعله أشهرهم جميعاً، ولا سيما الذين لمعوا منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ومكانته مؤرّخاً ومفكّراً لا تضاهى؛ فهو مرجع في القضية الفلسطينية، وباحث كبير في تاريخها المعاصر، وباني أحد صروح البحث العلمي الفلسطيني، مؤسّسة الدراسات الفلسطينية. وقد لمع من بين رجال هذه العائلة المقدسية أعلام كبار، أمثال يوسف ضيا الخالدي أول رئيس لبلدية القدس، وكان في الوقت نفسه نائباً عن متصرّفية القدس في البرلمان العثماني؛ وياسين الخالدي ثاني رئيس للبلدية بعد شقيقه يوسف ضيا؛ ومحمد روحي الخالدي صاحب مخطوطة "السيونيزم" (1913) التي حققها ونشرها وليد الخالدي في سنة 2021 ولاقت تحفظاتٍ علمية؛ وراغب الخالدي؛ وحسين فخري الخالدي رئيس وزراء الأردن أيضاً؛ وأحمد سامح الخالدي رائد التربية والتعليم ومدير الكلية العربية في القدس ووالد صاحب هذه الترجمة.
كان آل الخالدي، على العموم، من أنصار الدولة العثمانية، فوقفوا إلى جانبها خلال حملة نابليون بونابرت، وخلال حملة إبراهيم باشا، وساندوا العثمانيين في مواجهة الحملة البريطانية. غير أنّ كثيرين من آل الخالدي انضمّوا إلى حركة الاصلاح العثماني غداة قضاء السلطان محمود الثاني على الانكشارية، أمثال ياسين الخالدي الذي كان من أنصار مدحت باشا رائد الإصلاح العثماني في بلاد الشام. ومع ذلك، رفض آل الخالدي أن ينفذوا أوامر السلطان العثماني إبّان الحرب الروسية – العثمانية القاضية بقتل بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس وجميع المطارنة. ووقف محمد علي الخالدي عميد العائلة، آنذاك، ضد تلك الأوامر، وأخفى البطريرك في مغارة قرب باب العمود في القدس، وتظاهر أمام الناس بتنفيذ الأمر، إلى أن انتهت الحرب وكُشفت الحقائق. وفي دير الروم في القدس يجد الزائر اليوم صورة زيتية كبيرة لمحمد علي الخالدي معلقة قبالة مكتب البطريرك اعترافاً بفضله.
أبصر وليد الخالدي النور في القدس في 16/7/1925، وأمضى في أحيائها وشوارعها شطراً من طفولته الأولى. وتلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة الفرندز في رام الله، ثم انتقل إلى المدرسة الإنجيلية في القدس حيث أنهى تعلميه الثانوي. وفي 1945 حاز البكالوريوس من جامعة لندن متخصصًا في التاريخ الإغريقي والروماني واللغة اللاتينية.
التأثير الأكبر في الخالدي كان للحياة السياسية في فلسطين التي تعمّدت بالثورات الوطنية وبالقمع البريطاني وبالإرهاب الصهيوني معًا
خضع لمؤثريَن أسهما في تكوينه الفكري والعلمي: التأثير العربي – الإسلامي الذي كان لوالده أحمد سامح ولجدّه راغب الخالدي مؤسس المكتبة الخالدية في القدس أثر ملموس في ذلك، ثم التأثير العلمي الغربي الذي تلقّاه على يدي جيروم فاريل الأستاذ في جامعة كيمبردج الذي كان مديرًا للتربية والتعليم في فلسطين إبّان الانتداب البريطاني. أما التأثير الأكبر فكان للحياة السياسية في فلسطين التي تعمّدت بالثورات الوطنية وبالقمع البريطاني وبالإرهاب الصهيوني معًا. ومن مفارقات تلك الفترة، أي في أوائل أربعينيات القرن العشرين، أن وليد الخالدي بدأ يكتب الشعر بالإنكليزية وينشر قصائده في مجلة Fourm المقدسية، ويترجم من اللاتينية إلى الإنكليزية مقاطع من الإنياذة لفيرجيل. ثم نشر أولى مقالاته بالإنكليزية في 1943 في صحيفة Eastern Times الصادرة في بيروت، وفيها نقد للسياسة البريطانية المساندة للصهيونية في فلسطين. وفي هذه الأثناء، مارس وليد الخالدي التعليم في "كلية الأمة" في القدس قبل سنة 1945، ثم عمل تحت إدارة ألبرت حوراني في "المكتب العربي" في القدس، فأعد أوراق الدعوى الفلسطينية التي عُرضت أمام لجنة التحقيق الأنكلو – أميركية في 1946.
تزوج وليد الخالدي في سنة 1945 رشا سلام ابنة سليم علي سلام (أبو علي) وشقيقة صائب ومالك وعلي وعبد الله ومصباح سلام، وانتقلت زوجته إلى العيش معه في فلسطين. وكانت شقيقتها عنبرة سلام متزوجة والده أحمد سامح بعد وفاة زوجته الأولى السيدة إحسان عقل والدة وليد. وفي 1946، قرّر الزوجان الانتقال إلى بيروت، حيث عمل الزوج أستاذًا في كلية المقاصد، وكان، في الوقت نفسه، ناشطًا في الهيئة العربية العليا التي كان يرئسها الحاج أمين الحسيني. وكان حسين فخري الخالدي يشغل موقع الأمين العام لهذه الهيئة، فعمل وليد الخالدي سكرتيرًا خاصًا له. وفي حوادث عام 1958 في بيروت، أصيب بجروح طفيفة في إحدى جولات القتال الأهلي. ولم يلبث وليد الخالدي وزوجته بعد استتباب الأحوال في لبنان، وانتهاء عهد كميل شمعون، أن انتقلا إلى أوكسفورد حيث تابع دراسته في جامعتها تحت إشراف المستشرق هاملتون غيب. وقد وضع أطروحته عن المتصوّفة ونال عليها الماجستير في الآداب في سنة 1951.
بعد نيله الماجستير عمل محاضراً في الدراسات الشرقية في جامعة أوكسفورد. وعندما استقال هاملتون غيب في 1955 لينتقل إلى جامعة هارفارد الأميركية، عهد إلى وليد الخالدي تدريس مقرّراته في مادة التاريخ في الجامعة نفسها. لكنه، وعلى الرغم من تجديد الجامعة عقده ست سنوات، استقال من الجامعة في 1956 احتجاجاً على المشاركة البريطانية في العدوان الثلاثي على مصر، وعاد إلى بيروت. وكان من بين أقرب أصدقائه في تلك الفترة كلوفيس مقصود.
في 1963 أسّس وليد الخالدي في بيروت واحدًا من أكثر مشاريعه طموحًا، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"
التحق وليد الخالدي بالجامعة الأميركية في بيروت. وشهدت بيروت أزهى فترات حياته من حيث الإنتاج الفكري والعلمي والسياسي. فقد ترقّى من أستاذ مساعد إلى درجة الأستاذية (بروفيسور)، وكرّس معظم أوقاته لقضية فلسطين، وبالتحديد لقضية اللاجئين؛ ففنّد المزاعم الصهيونية التي روّجت الحكاية التي زعمت أن اللاجئين غادروا بلادهم استجابة لنداء القادة العرب. وفي هذا السياق، كشف خطة دالت Dalet Plan التي وضعها قادة الهاغاناه في 1945 لاحتلال فلسطين وطرد أهلها منها، والتي كانت، في حد ذاتها، تفنيدًا لا يمكن دحضُه للادّعاءات الصهيونية في شأن مغادرة اللاجئين بلادهم. وفي تلك الفترة، تمكن وليد الخالدي من تحقيق مشروع لتوثيق الأحوال السياسية العربية، فنفذه بالتعاون مع زميله يوسف إيبش (سوري)، وصدر هذا المشروع في صورة مجلة فصلية بعنوان "الوقائع العربية" Chronology of Arab Politics، ثم أصدر كتابًا سنويًا بعنوان "الوثائق السياسية العربية" Arab Political Documents بالعربية والانكليزية.
وفي سنة 1963 أسّس وليد الخالدي في بيروت واحدًا من أكثر مشاريعه طموحًا، أي "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" التي تنكّب مع قسطنطين زريق (سوري) وبرهان الدجاني (فلسطيني) عبء بنائها وتطويرها حتى صارت مؤسّسة كانت تقف في طليعة مؤسّسات البحث العلمي الفلسطيني في العالم العربي، وانتشرت مكاتبها في لندن وباريس وواشنطن ورام الله. وتولّى وليد الخالدي أمانة سر اللجنة التنفيذية للمؤسّسة حتى سنة 2017، بينما تولى قسطنطين زريق رئاسة مجلس الأمناء حتى ثمانينيات القرن المنصرم. وعمل الاثنان بجهد لافت على تغذية مكتبة المؤسّسة بالكتب والمراجع والوثائق والصور والتقارير حتى باتت تعدّ أكبر مكتبة في العالم متخصّصة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني، فهي تضم أكثر من 70 ألف كتاب بالعربية والإنكليزية والفرنسية والعبرية، علاوة على أكثر من 200 دورية يعود بعضها إلى أواخر القرن التاسع عشر.
هال وليد الخالدي ما حدث في يونيو/ حزيران 1967، وأورثته الهزيمة قدراً كبيراً من التفكّر والتأمل، ولا سيما بعد فقدان مدينة القدس وبقية الأراضي الفلسطينية. وانكشفت له الفجوة التكنولوجية بين العرب وإسرائيل التي كانت أحد أسباب الهزيمة. وقاده التفكير في هذه المعضلة إلى تأسيس هيئة علمية لدراسة هذه المشكلة. وتعاون، في هذا الأمر، مع البروفيسور أنطوان زحلان ومع برهان الدجاني، فالتقى الثلاثة الملك حسين في عمّان، وأسفر اللقاء عن تأسيس "الجمعية الملكية العلمية" في الأردن في 1968. لكن وليد الخالدي وأنطوان زحلان وبرهان الدجاني اضطرّوا إلى الانسحاب من هذه الجمعية بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 1970. غير أن الجمعية استمرّت في عملها. وفي تلك الأثناء، ساهم وليد الخالدي في كتابة خطاب ياسر عرفات الذي ألقاه في الأمم المتحدة في سنة 1974 مع محمود درويش وشفيق الحوت وصلاح الدباغ وغيرهم، وكان له دويّ عالمي كبير. وتولت ترجمة الخطاب شقيقته رندة الخالدي وإدوارد سعيد.
ظلت المكتبة الخالدية في القدس هاجس الخالدي الشاغل، فمنحها اهتماماً خاصّاً في ثمانينيات القرن العشرين
لم يشغل أي موقع في منظمة التحرير الفلسطينية. ومع ذلك، كان له جهد مهم في شؤون النضال الفلسطيني، اتسم معظمه بعدم الظهور الإعلامي، سيما محاولاته الدؤوبة لتجنيب الفلسطينيين الانخراط في الحرب الأهلية اللبنانية، ورغب في تقريب وجهات النظر بين القيادة الفلسطينية وقادة اليمين اللبناني، فالتقى في 10/6/1975 الأباتي بولس نعمان بعد وساطة من هاني سلام، ثم عاد ليلتقي في 15/6/1975 الأباتي بولس نعمان والأباتي بطرس قزي بحضور ياسر عرفات وصلاح خلف في منزل حسيب صيّاغ، وكان معه سميح العلمي. لكن الخالدي رأى، مع تفاقم الوضع الأمني، أن الأفضل له أن يجد متسعاً من الوقت لمتابعة مشروعه البحثي، فتعاقد مع جامعة هارفارد للتدريس في "مركز دراسات الشرق الأوسط" التابع لهذه الجامعة. وفي يوليو/ تموز 1978 نشر في فصلية Foreign Affairs مقالة عنوانها: "دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة" أثارت زوبعة من النقاش لدى ترجمتها إلى العربية ونشرها في صحيفة النهار اللبنانية. وتحولت، في ما بعد، إلى ما يمكن تسميته السياسة الرسمية لمنظمة التحرير.
استقال في سنة 1982 من الجامعة الأميركية في بيروت، والتحق بجامعة هارفارد التي قدّمت له عرضاً لائقاً هو "زميل أعلى في البحوث" في مركز دراسات الشرق الأوسط. وبقي في هذا الموقع حتى تقاعده في 1996. وفي هذه الأثناء، وبالتحديد بعد سنة 1982، أسهم مع حسيب الصباغ وسعيد خوري وعبد الحميد شومان وعبد المحسن القطان في إنشاء "مؤسّسة التعاون" التي كرّست جهدها للتنمية الثقافية والاجتماعية للشعب الفلسطيني في الشتات وتحت الاحتلال.
وفي غمرة مشاغله الكثيرة والمتشعبة، ظلت المكتبة الخالدية في القدس هاجسه الشاغل، فمنحها اهتماماً خاصاً في ثمانينيات القرن العشرين. وهي تضم أكبر مجموعة فلسطينية خاصة من المخطوطات العربية، علاوة على نحو ستة آلاف كتاب بالعربية والإنكليزية، جمعها أفراد العائلة الخالدية منذ القرن التاسع عشر، إلى جانب مئات الوثائق التي تعود، في معظمها، إلى الحقبة العثمانية.
تقع المكتبة الخالدية على طريق باب السلسلة بالقرب من الحرم القدسي. وكانت خديجة، الجدّة الكبرى لوليد الخالدي، أسّست هذه المكتبة في سنة 1900 بمساعدة ابنها راغب الخالدي جد وليد الخالدي. وبعد سقوط القدس في يونيو/ حزيران 1967 وقعت المكتبة الخالدية تحت خطر المصادرة الإسرائيلية، أو تحت خطر اعتداء المستوطنين عليها. وبمساعدة أفراد العائلة المقيمين في القدس وفي الشتات، استطاع وليد الخالدي حماية المكتبة باللجوء إلى المحاكم، وإلى بعض الإسرائيليين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، تمكّن في 1985 من تسجيل "جمعية أصدقاء المكتبة الخالدية في القدس" هيئة خاصة معفاة من الضرائب في ولاية ماساشوستس الأميركية تحت إشراف مجلس أمناء مؤلف في معظمه من آل الخالدي بينهم البروفيسوران رشيد الخالدي وطريف الخالدي وبرئاسة وليد مباشرة. وتمكّنت الهيئة من إعادة تجهيز المكتبة وتجديدها وتوسيعها، وتنظيف الكتب والمخطوطات بأفضل الطرق العلمية الحديثة، وتصوير مقتنياتها على الميكروفيلم وتبويب المحتويات كلها.
لم يتوقّف وليد الخالدي عن الكفاح بعد تقاعده من جامعة هارفارد؛ فاستمرّ حتى 2017 يشرف من بوسطن، حيث يقيم، على الشؤون اليومية لمؤسّسة الدراسات الفلسطينية
في سنة 1995، بعد التصديق على القانون الأميركي في شأن نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، شرع وليد الخالدي في حملة قانونية للتصدّي لهذا القانون، وباشر مع آخرين، أمثال رشيد الخالدي وعصام النشاشيبي وفيليب مطر، في عملية بحث دقيقة ومضنية في ملفات لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين، وفي سجلات وزارة الخارجية الأميركية ومكتب السجلات العامة في لندن، وفي سجل ملكية الأراضي في القدس. وتمكّن، بعد حملة إعلامية وقانونية وسياسية من وقف عملية نقل السفارة إلى القدس بحجّة الاعتداء على مالكي الأرض، وبينهم أميركيون من أصل فلسطيني. لكن، مع وصول دونالد ترامب إلى موقع الرئاسة الأميركية في عام 2017، انقلبت الأحوال تماماً.
كان لوليد الخالدي شأن مهم في بعض الخيارات السياسية للقيادة الفلسطينية مثل صوغ بيان ياسر عرفات الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت استثنائياً في جنيف في عام 1988 كي يتسنّى لعرفات إلقاء بيانه بعدما رفض وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز، منحه تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة إلا بعد أن يعلن نبذه الإرهاب والاعتراف بقرار مجلس الأمن 242. ولهذه الغاية، تعاون وليد الخالدي مع حسيب صباغ وباسل عقل ووزير خارجية السويد ستين أندرسون وكلوفيس مقصود. وعلاوة على ذلك، تولى تمثيل فلسطين في الوفد الأردني – الفلسطيني المشترك، لأن التوافق آنذاك استقرّ على أن يكون الفلسطينيون في الوفد المشترك غير أعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية. وقد منحه الرئيس محمود عبّاس وسام نجمة القدس من رتبة الوشاح الأكبر في عام 2015.
لم يتوقّف وليد الخالدي عن الكفاح بعد تقاعده من جامعة هارفارد؛ فاستمرّ حتى سنة 2017 يشرف من بوسطن، حيث يقيم، على الشؤون اليومية لمؤسّسة الدراسات الفلسطينية. ولعل قائمة مؤلفاته تشير إلى الإنجاز الكبير الذي حقّقه طوال نحو 60 سنة من الكتابة والتأليف والبحث، فصار واحدًا من ألمع الباحثين العرب، وأحد روّاد البحث العلمي الفلسطيني، وواحداً من الذين صرفوا جل عمرهم في النضال السياسي والفكري في سبيل قضية فلسطين وشعب فلسطين. وها هو يخطو نحو المائة بهمة شاب في الأربعين، ويتوفر على كتابة مذكّراته التي ستكون، على ما أعتقد، من أهم السير والمذكّرات الفلسطينية.