يحرقون في ليبيا .. ويطفئون في إسرائيل
أين فلسطين الآن؟ ليس السؤال مرتبطًا بخرائط الجغرافيا، بقدر ما هو يتعلق بخرائط الوجدان العربي، أو بالأحرى موقعها على لائحة الاهتمامات، إن على مستوى الحكومات أو الشعوب. كم خبرًا طالعت في الإعلام العربي عن لوثة الضم الصهيونية، لالتهام ما تبقى من مساحة فلسطين، مقارنةً بما طالعت عن جنون تقسيم ليبيا الذي تمارسه، عمليًا، كل الأطراف التي تدّعي الحرص على المصلحة الليبية، وإنْ تنفيه قولًا؟
في الساعات الماضية، كانت ثمة تظاهرة إلكترونية محدودة على وقع أنباء عن تلاعبٍ جديد على خرائط محرك البحث "غوغل" لتغييب آخر لاسم فلسطين ومعالمها، غير أن ضجيج اللعبة السيسية الأردوغانية فوق حلبة الملاكمة الليبية طغى على كل الملفات الأخرى، ومنها الموضوع الفلسطيني الذي بات لا يمثل للأطراف العربية والإقليمية التي تدّعي وصلًا بالقدس سوى رابطة عنق فاخرة تضفي أناقة عابرة عند الذهاب إلى حفلات الخطابة، أو هي فقرة مثيرة تدغدغ المشاعر الشعبية عند تدشين الحملات الانتخابية في السباق على كرسي الحكم، كما فعل السيد قيس سعيّد واستحوذ على عقل الجمهور وقلبه في تونس والوطن العربي بحديثٍ عن تحرير فلسطين، وتحريم التطبيع، تتواضع أمامه قصائد نزار قباني ومظفر النواب خجلًا.
لابد أن إسرائيل تتثاءب في ملل الآن، وهي تجد نفسها احتلالًا عاطلًا لا يفعل شيئًا يُذْكَر لتأمين استعمارها المريح للأراضي الفلسطينية، وتشعر بكثير من الضجر، وهي ترى من يفترض أنهم خصومها يقومون بمهمة خدمة الاحتلال وتوفير الحماية لأحلامه في التوسع والامتداد.
أنظر حولك، ستجد فكرة الحرب حلًا سهلًا وسريعًا ومغريًا للغاية في كل مكان على الخريطة العربية، حيث لا يتوقف الأمر عند التلويح بها، وإنما صارت ممارسة فعلية، إذا كان الأمر يتعلق بخلافات عربية، لكنها (الحرب) تصبح شرًا مستطيرًا وافتئاتًا على مستقبل الأجيال وتعريضًا لمصير الأمة للخطر، إذا ما كان الأمر يرتبط بالعدو التاريخي والوحيد الذي يلتهم فلسطين، بشهية مفتوحة وخدمة فندقية شاملة من أشقاء فلسطين وإخوتها.
يمكنك أن تلقي نظرة عابرة على ليبيا، لتدرك كيف أن التضحية بالدماء وبذل الأنفس والاقتطاع من الميزانيات مسألة شديدة السهولة واليسر، حين يقرّر من يُفترض أنهم أخوة وجيران التصادم عسكريًا، وكأنهم يلعبون الشطرنج في أوقات الفراغ.
الضخّ الكثيف للمعدّات العسكرية والقوى البشرية من أطراف الصراع على الأرض الليبية، مع سرعة تخليق المظلات التشريعية للدخول في الحرب، ذلك كله يجري تحت شعارات محبة الشعب الليبي وحماية حدود ليبيا، فيما الحاصل فعليًا أن ليبيا تحوّلت إلى فطيرة ساخنة معجونة بالدماء، يتناوب التهامها أولئك الذين يعلنون حبهم ليبيا.
كلهم يحبّون ليبيا بمنتهى الحماس والتدفق، وهذا هو حال ليبيا، خريطة اجتماعية وإنسانية ممزقة، ووحدة سياسية مبعثرة، وشبح تقسيم جغرافي يتسارع أكثر من أي وقت مضى. والمفارقة أن الذين يتعجّلون الحريق الشامل في ليبيا هم أنفسهم الذين توافقوا واتفقوا على إطفاء حرائق الكيان الصهيوني، حين اشتعلت النار بفعل الطبيعة والمناخ قبل سنوات، إذ كانوا يتنافسون بطائرات الإنقاذ بالحماس ذاته الذي يتنافسون به على إحراق ليبيا الآن.
حسنًا، فليجرّب كل عشاق ليبيا التوقف عن حبهم الحارق لها، شهرا واحدا على الأقل، وترك الليبيين وشأنهم، يحسمون خلافاتهم ويقرّرون مصير بلادهم، من دون وصاية من هؤلاء الذين يرون الأراضي الليبية كلأً مباحًا، يجرّبون فيه أسلحتهم ويختبرون قدراتهم في التوسع والامتداد. كل طلقة ذخيرة تهدر، وكل نفس تزهق، في صراع بين عرب وعرب، أو بين قوى إقليمية تدّعي قربًا بالوجع الفلسطيني، وأخرى عربية تزعم أخوتها لفلسطين، هي بالضرورة تعبير عن مشروع كفاح، أو نضال، أو جهاد، سمّه ما شئت، من أجل خدمة المحتل الصهيوني.