يسار الانقلاب الأخرس
غزة تحت القصف مجددا، والعربدة الإسرائيلية تتمدد بطول خارطة الأرض المحتلة وعرضها، ولا تظاهرة أو وقفة أو مسيرة غضب في الشارع العربي، لا خبر عن مؤتمر جماهيري على سلم نقابة الصحافيين المصرية -مثلا- لا بيان تضامن مع الشعب الفلسطيني من يافطات أحزاب ناصرية متوفرة في الأسواق بكثرة، بل بيان من الخارجية المصرية يمسك العصا من المنتصف، على طريقة فولكلور مبارك السياسي.
إذن ، فالضمير في غيبوبة، أو هو منشغل بالحرب على "الإخوان" تلك الحرب التي تتعانق فيها المصلحة الإسرائيلية مع مصالح الانقلاب ويساره الأخرس، الذي بات ينافس برهامي في سلفيته الأليفة أمام السلطة، وطبيعي والحال كذلك أن تصبح كوفية فلسطينية تطوق عنق شاب أو فتاة سببا قويا للذهاب إلى المعتقل، أو الاتهام بالإرهاب.
قلت قبل أيام إن قصة اغتصاب طالبة في مدرعة أمام جامعة الأزهر، من قبل ضابط أراد أن يعبر لها عن رجولته الرخيصة وفحولته الوضيعة، لا تنفصل عن واقعة إحراق صبي فلسطيني حياً على يد جنود الاحتلال، وفي الحالتين أصيب من كنا نعتبرهم ضمير المجتمع ورموزه الحية بالخرس، فلم نسمع صوتا للنخب والرموز المنخرطة في غسل أيدي وأقدام الانقلاب، من عواجيز الليبرالية واليسار، الذين كانوا يعتبرون استخدام القوة في فض تظاهرة مطالبة بالحريات واحترام حقوق الإنسان، أو بطرد السفير الصهيوني، سببا كافيا لتجريد النظام من شرعيته.
على مستوى كبار الليبراليين المتقاعدين لم يتحدث أحد ممن أعلنوا سقوط شرعية محمد مرسي -عقب "الفيلم" الهابط الذي أنتجته الدولة العميقة وعرضته كل شاشاتها للمواطن الذي أدى دور المسحول بالقرب من قصر الاتحادية- لم يتحدث بكلمة أمام واقعة اغتصاب طالبة الأزهر.. لم يكن أحد منهم في مستوى جندي الأمن المركزي الذي بكى حزنا و إحساسا بالعار، لأنه لم يملك أن يفعل شيئا وهو يرى قائده يمارس ساديته بفظاعة.
لم يجرؤ أحد على رفع صوته بالاحتجاج والإدانة، أو بالأحرى لم يكن يريد أن يفعل، وإلا لكان قد فعل، وهو يشارك في تأمين عملية اغتصاب ثورة، ويقودها إلى مخدع الجنرالات.
أما عن عواجيز اليسار وعجزته من الخادمين في بلاط الانقلاب، فحدّث ولا حرج، فهم في وضع متجاوز للحالة البرهامية السلفية في التطبيل لسلطة تنشب أظفارها وتغرس أنيابها في جسد تلك الطبقة التي أمضى اليساريون المحترفون عمرهم في الاعتياش على قضاياها وهمومها، وبالقدر نفسه يلعقون كل تاريخهم النضالي على المستوى القومي، وهم يرون العدوان الصهيوني على الفلسطينيين من دون أن يحركوا ساكنا، بل إن غلاة الناصرية المدجنة منهم، أعلنوا خصومتهم مع المقاومة الفلسطينية بذريعة أنها ذات مكون إسلامي.
واحدة من معتزلات النضال اليساري، ممن تبوأن مقعدا في حافلة الدولة الممعنة في قمعها، الموغلة في توحشها الرأسمالي، عبّرت في حوار تلفزيوني عن فخرها بأنها أهانت الرئيس محمد مرسي حين أجبرته على الخروج من باب الخدّامين، هكذا صار "الخدامون" عارا ونقيصة من منظور تلك "المتقاعدة الاشتراكية الشعبية" بعد أن كان العمال والفلاحون هم ملح الأرض وعنوان النضال من أجل الكرامة الإنسانية.
مثلها مثل هذا الاشتراكي القديم المشاغب الذي اعتبرناه يوماً "مؤذن الثورة" الشجيّ، أضحى متعسكرا أكثر من العسكريين أنفسهم، وطبقيا أبعد من صقور الرأسمالية، وهو ينزع عن الثائرين المتظاهرين ضد القمع والهمجية هذه الأيام صفة المواطنة، وربما الإنسانية حين تراق دماؤهم ويساقون إلى عتمة المعتقل بالجملة، بينما الرفيق يستمتع فوق أرجوحة الانقلاب.
إن الذين صعدوا فوق أكتاف الجماهير بوصفهم قادة تاريخيين للنضال من أجل قضايا الطبقات الكادحة، وكانوا وحوشا كاسرة في انتفاضة الخبز أيام السادات ( يناير/كانون الثاني 1977) يصمتون صمت الحملان أمام قرارات افتراس الطبقات الفقيرة في يوليو/تموز 2014.. تماما كما أن ماكينة الهتاف لدى محترفي الصياح ضد "كامب ديفيد" وما تلاها من جرائم صهيونية في فلسطين ولبنان والعراق على مدار العقود الماضية، تبدو الآن مصابة بالعطب والعطل، لا تجرؤ على الكلام، وكأنها تحولت إلى حناجر خرساء على الطريقة البرهامية.
لقد بلغ الشطط بهؤلاء أنهم يمارسون أبشع عمليات التخوين والتكفير ضد شباب اليسار الذي يقاوم التلوث والسقوط، ويلوكون ضدهم اتهامات مضحكة بـ"التأخون" وعلى ذلك لن نفاجأ إذا تبنى هؤلاء الذين كانوا كبارا دعوة إلى مليونية لحرق الكوفية الفلسطينية، تماما كما دعا أحدهم إلى محرقة لأطفال الشوارع، كي لا يزعجوا أمراء الرأسمالية الجدد.