يسقط الاستقلال
تفرض المقارنة نفسها بين موقف الأميركيين والأوروبيين الرافض فكرة استقلال اسكتلندا عن بريطانيا العظمى، وموقف هذه الدول الداعم لكل دعاوى الانفصال والتقسيم في مناطق أخرى من العالم، وبشكل خاص في أفريقيا وآسيا.
واشنطن وأصدقاؤها كانوا الأكثر حماساً ودفعاً لعملية انفصال جنوب السودان عن شماله، بل إن التاريخ يقول إن السودان لم ينشطر، لولا أن أميركا أرادت له الانشطار والتقسيم.
أميركا، أيضاً، هي الراعي الرسمي والرئيس لكل دعوات الانفصال والتجزئة في الوطن العربي، وليس استقلال إقليم كردستان عن الدولة المركزية في العراق ببعيد.
الطريف، أيضاً، أن الإعلام البريطاني الذي استخدم كل طاقاته ضد فكرة استقلال اسكتلندا، هو ذاته الإعلام الذي روج الرؤية البريطانية بشأن العراق، في الأسابيع الأخيرة، أن التقسيم هو الحل.
لقد قال الجيل القديم في اسكتلندا "يسقط الاستقلال"، ولم تفلح صيحة نجمها الأسطوري "أندي موراي" لاعب التنس الذي هزّ مشاعر بريطانيا العظمى كلها، حين حمل درع بطولة ويمبلدون للتنس بعد 77 عاماً عجافا، لم تفلح صيحته "لنفعلها" في تغيير دفة التصويت لصالح الانفصال عن المملكة المتحدة.
"موراي" هو بطل بريطانيا القومي، بعد أن حصد في عام واحد كأس أم بطولات لعبة التنس في العالم "ويمبلدون" والميدالية الذهبية في أوليمبياد لندن 2013، وهو الحدث الذي فجر براكين البهجة في كل أنحاء بريطانيا.
وصبيحة يوم الاستفتاء على الاستقلال، قرر "موراي" أن يضع كل قوته في التسديد بتغريدة واحدة من كلمة واحدة على موقع "تويتر"، صارخا "لنفعلها" .. أطلق هذه الصيحة على وقع حملة صاخبة في الاتجاه المضاد، تحشد الجماهير للتصويت بالرفض على استقلال اسكتلندا عن التاج البريطاني، عن طريق التحذير من الأخطار الاقتصادية للانفصال.
لم تنفصل اسكتلندا، إذن، لكن بريطانيا لم تعد بريطانيا، إذ تكشف حالة الفزع - في انجلترا وأوروبا كلها- من احتمالية تأييد الاستقلال عن تغير هائل في البنية الاجتماعية والسياسية للمملكة المتحدة، ولذا، كان لافتاً هذا التوحد الكامل بين الأحزاب البريطانية الثلاثة- الكبيرة- ضد خطوة الاستقلال.
ويلفت النظر أن "حزب استقلال بريطانيا" الذي حقق مفاجأة مذهلة في الانتخابات البلدية الأخيرة حشد كل قواه ضد استقلال اسكتلندا، على الرغم من أن الحزب يؤسس خطابه السياسي على فكرة المناداة باستقلال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ويعتمد في بناء جماهيريته على قطاع الشباب.
والغريب، هنا، أن الأصوات الأوروبية التي وقفت ضد استقلال اسكتلندا انطلقت من مخاوف على وحدة أوروبا، ومن ثم يسجل حزب استقلال بريطانيا تناقضاً صارخاً في موقفين، لا يفصل بينهما إلا بضعة شهور.
في المحصلة، نحن أمام نموذج صارخ للتناقض، فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد الاستقلال والتقسيم والانفصال في الإمبراطوريات القديمة، لكنهما، في الوقت ذاته، المحرك الأول لنزعات تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ في العالم العربي.