يوم مات حافظ الأسد
مات حافظ الأسد يوم 10 يونيو/ حزيران عام 2000، وكانت الحياة لحظتها تتمرجحُ بضجرٍ اعتيادي في سورية، التي تستر عورتها بكثيرٍ من شعارات "البعث" و"الصمود والتصدّي"، إذ هي البلدُ المصابُ بالمسّ واللعنة من جرّاء تعليق تعويذات، وتمائم "الأب القائد"، صوراً ملأت الجدران الصمّاء للمباني الحكومية والمدارس والجامعات، أو تماثيلَ التصقت بالميادين العامة، وانتصبت بخُبثٍ في مداخل المدن والبلدات، فكان حافظ الأسد يحتلُّ بمفرده سوريةَ بالكامل، التي جعل منها بلاداً لا ترتدي سوى قلادةٍ واحدة تحمل صورتَه وعائلتَه، ولديها جيشٌ "عقائدي" لا يحمل جنودُه إلا صورَ حافظ الأسد.
بلادٌ لا تَحبلُ إلا بالبعث، ولا تَلدُ إلا النفاق السياسي محصّلةً نهائيةً للمزاج العام داخل نظام استبداديّ شمولي أبدعه حافظ الأسد بنفسهِ، وربّاه على يديه طيلة ثلاثة عقود من الزمن.
ويوم مات، كانت سورية تُحدّق إلى عربةِ مدفعٍ تحمل جثّته، غير مُصدّقةٍ أنّه مات، أخيراً، وفي الفضاء الاجتماعي العام تطايرت الهواجس، حينها، عن مصير النظام الحاكم بعدما فُقِد "القائد الخالد"، ولعلّ فكرة الخلود نفسها سقطت مع كامل عجرفتها السياسية في ذاك الحين، إذ غادرها حافظُ الأسد نفسُه، تاركاً خلفه "وثنيّة سياسية" تقابل واقعياً إرثه الكبير من الصور والتماثيل والخطابات الطويلة، التي كانت تُدرّسُ لطلاب جميع المراحل التعليمية في سورية، من خلال مقررٍ دراسيّ كان يحمل على الدوام اسم "التربية القومية الاشتراكية".
غير أنّ فكرة "تأبيد" الأسد في حكم سورية سرعانَ ما جرى استنباتها من خلال توريث الحكم لبشّار الأسد، وكان يكفي حينها أن يُصدر نائب رئيس الجمهورية، عبد الحليم خدّام، مرسومَين تشريعيَين متتاليَين، رفّع الأول بشّار الأسد من رتبة عقيد ركن، وبلمح البصر، إلى رتبة فريق، وجعله المرسوم الثاني قائداً عاماً للجيش والقوّات المُسلّحة، ثمّ عدّل مجلس الشعب، وبلمح البصر، أيضاً، دستور البلاد لتصير السنّ القانونية لرئيس الجمهورية مماثلةً لعمر وريث "التأبيد السياسي"، وكان حينها يُجاور الرابعة والثلاثين من العمر.
في تلك الفترة، كانت سورية مُكتظّةً بالإفلاس السياسي، بعدما أخمد حافظ الأسد، ونظامه البوليسي، حراك الثمانينيات السياسي، متمثّلاً بالشيوعيين من حزب العمل الشيوعي، وبالإخوان المسلمين من "الطليعة المقاتلة"، ليجمع بعضهما إلى جوار بعض داخل أقبية مقرّاته الأمنية، وفي سجنَي صيدنايا وتدمر العسكريَين، وفي آخر عقدٍ حكمَ فيه حافظ الأسد سورية، ظهر قانون الاستثمار رقم 10 مُفسحاً المجال أمام استثمارات القطاع الخاص، فتعدّدت إثْرَ ذلك أنواع العلكة المحليّة وألوانها، وأنواع أكياس "الشيبس"، وعلب المحارم الورقية، في السوق السورية، ثم صدرت عملة ورقية من فئة الألف ليرة تحمل صورته، ومنع الأمن السياسي، لاحقاً، أن تُرمى تلك الورقة النقدية تحت أقدام الراقصات في المرابع الليلية المُزدهرة في طريق المطار، فحمايةُ الرمزيّة السياسية لديكتاتور سورية من العبث ظلّت الهاجسَ الأكثر أهمّية الذي يلاحق عمل المنظومة الأمنية.
بلادٌ لا تَحبلُ إلا بالبعث، ولا تَلدُ إلا النفاق السياسي محصّلةً نهائيةً للمزاج العام داخل نظام استبداديّ شمولي أبدعه حافظ الأسد بنفسهِ، وربّاه على يديه طيلة ثلاثة عقود من الزمن
وحين مات حافظ الأسد لم تكن سورية قد عرفت الإنترنت بعد، ولا دخلتها شبكات الاتصالات الخلوية، إنّما كانت بلاداً كئيبة تحكمها صور حافظ الأسد الموشومة فوق أغلفة الدفاتر المدرسيّة بمقاساتها الثلاثة المعروفة، وتحت ياقات "مراييل" طلاب المرحلة الابتدائيّة، وتحت عناوين كتيّبات الإرشاد الحزبي، والمناعة العقائديّة، وفوق مزاعم معظم أخبار نشرة الثامنة على القناة الأولى للتلفزيون السوري، وأعلى منصّة مدرّج بصرى الأثري، وفي ملعب العباسيين لكرة القدم، أي في كلّ البلاد تقريباً، وكأنّ حافظ الأسد كان يستعمر سورية من بابها إلى محرابها، كما يُقال، وكأنّ سورية كانت ممسوسةً بلعنته تلك.
والاسترزاق السياسي، الذي تحصّل عليه حافظ الأسد بواسطة تصفيته سورية، وجعلِها من لونٍ واحد، ورائحة واحدة، إنّما كان يقابله، وفي آن، استئصالٌ عميق لفكرة الوطن والمواطنة، واستبدالها عنوةً بفكرة "سورية الأسد"، التي تأوي كلّ ليلة إلى فراش "القائد الخالد"، وهذا مكّن النظام السوري من تقليص نزوع الناس نحو هدم هذا العرش الاستبدادي لعائلة الأسد، وجَعْلِ الفضاء الاجتماعي، عموماً، أكثر مُهادنةً في تمرير انتقال السلطة من الأب إلى الابن، وهذا الذي حدث فعلاً في منتصف عام 2000.
وفي مقابل تفشّي تلك المهادنة داخل الفضاء الاجتماعي للسوريين كان بالإمكان تمرير سرديّة أنّ الرئيس الشاب، المُنفتِح على الغرب، والذي تخصّص في طبّ العيون في مستشفى "ويسترن" بلندن، لن يكون قاسياً على سورية كما كان والده، وهذا الذي جاء بعكسه بشّار الأسد، إذ إنّ أذاهُ لسورية لا يقاس بأذى حافظ الأسد لهذا البلد، رأيناه كيف دمّر مُدناً بأكملها، وأبادَ سكانها أو هجّرهم، ورأيناه كيف دعا أربعة احتلالات عسكرية لتسكن الجغرافية السوريّة، ورأيناهُ تاجرَ كبتاغون "قدّ الدنيا"، ولعصاباته صولاتٌ وجولاتٌ مشهودةٌ على الحدود الجنوبية والشرقية للبلاد، ثم رأيناه ذليلاً في قمم العرب، ورأينا، أخيراً، كيف اضطر سرطان الدم أن يطردَ زوجته من المشهدين الاقتصادي والسياسي العامّين.
الاسترزاق السياسي، الذي تحصّل عليه حافظ الأسد بتصفيته سورية وجعلِها من لونٍ واحد، قابله استئصالٌ لفكرة الوطن والمواطنة
قبل هذا، اكتفى بشّار الأسد بتغيير أسماء اللاعبين في منظومة الحكم لديه، من دون تغيير الملعب، أو قواعد اللعب، فعل هذا على نحو ملحوظ بعد الثورة عليه عام 2011، فانتهى بالتخلّص من سدنةِ المعبد القديم الخاص بوالده أو "الحرس القديم" للنظام، فعلَ ذلك إمّا بالتصفية والاغتيال تارةً، أو بالإقالة تارةً أخرى، ليظهرَ حرسٌ جديد لنظام الحكم، ومراكزَ قوىً ونفوذٍ جديدة، مُفسحاً بذلك الطريق أمام شهيّة زوجته غير المحدودة للثراء والظهور، حتّى وإن كان المقابلُ هو إفقار البلاد، وتهجير من استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبفعل سياساته الحمقاء، وسياسات زوجته ذات الصبغة المافياويّة، لا تزال انتفاضة السويداء جنوب البلاد مستمرّةً منذ شهر أغسطس/ آب الماضي، من دون انقطاعٍ أو تراخٍ.
يتحدّث ابن خلدون في مقدّمته عن النُخَبِ المُترفةِ، المُثقلةِ بالمال والدِعَة، والقوى المسلّحة، التي لا تجد أمامها الجماهير للمطالبة بحقوقها، إنْ خرجت ناقمةً على هذا الظلم والاستئثار بالسلطة، إلا طلب الدعم من القوى الخارجية، التي تجد معها مثل هذه الأنظمة، بدورها، مصلحةً سياسية في استمرارها وبقائها لتقهر شعوبها. يقول ابن خلدون: "إذا جاء المُطالب لهم، لم يقاوموا مدافعَتَهُ، فيحتاج صاحب الدولة حينئذٍ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، فيستكثرُ من الموالي، ويصطنعُ من يُغني عن أهل الدولة بعضَ الغناء، حتّى يتأذّن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت". أتمَّ ابن خلدون مُقدّمته تلك قبل ستةِ قرون وربع القرن على موت حافظ الأسد، ولعلّ الأخير قرأ بواطنَ تلك المُقدّمة، واستوقفته ردحاً يُقلّبُ ما بين يديه، مُستدلّاً على خراب سورية المُقبل، إذ إنّه يعلم فداحةَ توريث البلاد لابنه الطويلِ النحيلِ، القادمِ من ضباب العاصمة البريطانية، لكنّه كان مُضطرّاً لأن يموت، من دون أن يضيف صورته التميمةَ إلى مقدّمة ابن خلدون.