نيران في طرابلس والموقد في سورية
كلما اشتعلت النيران في لبنان، واندلعت جولات جديدة من المواجهات العسكرية على حدوده، أو داخل مدنه، وآخرها الجولة الجديدة، المندلعة هذه الأيام، بين الجيش اللبناني ومسلحين في درب التبانة في طرابلس، تعود الذاكرة إلى أواخر الحرب الأهلية اللبنانية واتفاق الطائف الذي كرس صيغة 1943. ثم تعرِّج على عدوان "عناقيد الغضب" الإسرائيلي في عام 1996، وما تبعه من نقمة عالمية على إسرائيل، فاقمها ارتكابها مجزرة قانا في أثنائه، وقد ظلت ذيول العدوان تمتد إلى مايو/أيار من عام 2000، حين انسحبت القوات الإسرائيلية من الشريط الحدودي، معتبرة نفسها انسحبت من الأراضي اللبنانية كافة، وهو انسحاب اعتبره فرقاء لبنانيون منقوصاً لاحتفاظها بمزارع شبعا. فقد اشتَمَّ كثيرون مما بدا أنه تبرع سورية بمزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل إلى لبنان، رائحة نيران ستبقى تحت الرماد اللبناني إلى وقت بعيد. فعن طريق اعتبار مزارع شبعا لبنانية التبعية، سيحصل حزب الله على المشروعية التي ستسمح له بالاحتفاظ بسلاحه لمحاربة المحتل الإسرائيلي، وإجباره على الانسحاب من المزارع. وبالتالي، سيضعف من حجة الأطراف اللبنانية المطالبة بتسليم سلاح الحزب إلى السلطة اللبنانية وانتشار الجيش اللبناني على حدود البلاد الجنوبية في مواجهة الجيش الإسرائيلي. وهو أمر لم يتم، ما أدى إلى إضعاف هيبة الدولة وإحداث إحباط لدى من حلم ببسط الدولة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، والانتقال إلى صيغة الدولة المدنية، بدل صيغة الطوائف الحاكمة وميليشياتها المتمترسة في مناطق نفوذها، والتي تعد عامل تفجير دائم يضع لبنان على حافة حرب أهلية مؤجلة.
وتمارس الزعامات الطائفية عمليات استقطاب في المجتمع اللبناني، غير مفتقرة المحفزات التي تساعدها في إنجاح هذه العملية، بملكيتها القرار السياسي، وفرضها تجهيلاً على فئات من الشعب، وإفقاراً يسهل لها التحكم بأجيال كثيرة عاطلة عن العمل، وزاحفة إلى أمام باب الزعيم الطائفي، بانتظار فرصة عمل هنا، أو عقد مياومة هناك، أو فتات أو وعود مما يجود به الزعيم. وهي، بذلك، جاهزة لتلقي الخطاب الطائفي، والذوبان فيه إلى درجة العماء الذي يعبر عن ولائها، ويجعل منها وقوداً لأي حرب طائفية، أو معركة كبرى بين الأحياء المتقابلة. وهذه الزعامات التي وجدت في طرابلس ملعباً لها، وجدت بؤساً مقيماً منذ قيام الدولة بشكلها الحالي. ووجدت في الجنوب، في واقع الحرمان وقصص القتل في كربلاء الغابرة، مطية لها، لظهورها بمظهر المدافع والحامي من تهديد أبناء الوطن، الشركاء فيه، أو أبناء أوطان أخرى، تهديداً قادماً لا محالة، هم في وجهه بالمرصاد.
لذلك، لا تتعجب غياب مناصري الأحزاب والجماعات الدينية والطائفية عن المظاهرات المطلبية التي تجوب شوارع البلاد كل حين، مطالبة بتعديل قوانين الضمان تارة، وتعديل سلسلة الرتب والرواتب وغيرها من المظاهرات التي تطالب بتحقيق مطالب أغلب مواطني البلاد، بغض النظر عن الطائفة التي ينتمون إليها. لا بل إنك لا تجد في أدبيات هذه الأحزاب، أو أجنداتها، أي توجه اجتماعي، أو مطلبي تدرجه فيها، ولو حتى من باب الديماغوجيا. فهذه الأحزاب أو الجماعات الطائفية ترغب في استمرار فقر مواطني بلدها وجهلهم، لتسهل عليها مهمة اقتيادهم، وتأليبهم على الطوائف الأخرى، والظهور أمامهم بمظهر المدافع عن الطائفة.
ولن نضيف شيئاً إذا قلنا إن تدخل حزب الله في الحرب الدائرة في سورية فاقم من حدة الاحتقان الغائر في النفوس المتحفزة، منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، في فبراير/شباط من عام 2005، حين كانت الشبهة بتنفيذ الاغتيال تحوم حول سورية وحزب الله. ما دفع، إضافة إلى رفض حزب الله المتكرر تسليم أسلحته إلى الدولة، أطرافاً عديدة من الطوائف الأخرى، إلى إعادة تأسيس ميليشيات أو أشكالٍ من العسكرة، للذود عن الطائفة، في حال شن أكبر فصيل عسكري في لبنان عمليات اغتيال أو هجمات ضد الطوائف المقابلة له.
كما أن الشارع المقابل في طرابلس، في جبل محسن، وهو الموالي للنظام السوري، لم يألُ جهداً في إظهار موالاته واصطفافه إلى جانب النظام الذي يعتبر أبناء الشارع الآخر أنه يقتل يومياً أبناء طائفتهم في سورية. وقد ظهر أن أبناء جبل محسن مغالون في دعمهم، على الرغم من عدم حصولهم على أية مكاسب لافتة من النظام السوري. ما يضعهم في صف الخاضعين طائفياً الذين لا تجد ما يفسر ولاءهم، أو دفاعهم عن طرف بعيد عنهم كل هذا البعد، ولن يجديه نفعاً قتالهم العبثي شركاءهم في الوطن، أبناء الطائفة الأخرى.
هل تمتد النار السورية لتطال البلد الجار، لبنان، الأقرب والأسرع للتجاوب مع نارها؟ يبدو البلد مهيئاً، في لحظة أو أخرى، لهذا الدخول القوي في حربٍ لا يعرف لها شكلٌ أو مستقر. ويبقى غياب المجتمع الأهلي، أو منظماته، الذي يفاقم نتائج غيابِه، غيابُ الدولة بمؤسساتها التي يمكن أن تحصن هذا المواطن من الانزلاق في أتون حرب طائفية، لا ناقة له فيها ولا جمل، يبقى عاملاً في ازدياد الاصطفاف الطائفي. تلك الحرب التي وجدت، للتو، لها مقدمات في الاشتباكات في عرسال والهجمات على قواعد حزب الله في بريتال في بعلبك، وأخيراً ودائماً في طرابلس. كما تجد لها علائم في ما يحكى عن وجود عناصر تابعة لجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في البلاد، تتحضر للعمل على الانتقام من وجود حزب الله في سورية. وتبقى مقولة إن المواطنين في هذه البلاد يعيشون لحظات سلم أهلي، تحمل، في طياتها، نذر حرب أهلية، يمكن أن تقع، في أي لحظة، لتثبت أن ما يعتبرونه سلماً أهلياً، ليس سوى سلم أهلي هش ومزيف، ينتظر لحظة وقارباً مناسبين للعبور إلى أراضٍ أو بحارٍ مجهولة.