في استفراغ الجمهوريّة-الجثّة اللبنانيّة
"التمديد بـ 95 صوتاً: القوّات تمنع الفراغ" (المستقبل)، "القوات تنقذ الجلسة... وحزب التمديد الكتلة الأكبر" (النهار)، "التمديد باسم الشعب" (الأخبار)، "تمديد التمديد في دولة "الفراغ" (السفير). هي مانشيتات الجرائد اللبنانيّة الناطقة باسم الفصائل المختلفة للبورجوازية اللبنانية الحاكمة، صبيحة يوم الإيغال في انقلابها على الشعب (التمديد لولاية مجلس النواب)، من دون استحياء أو مواربة. يريد تيار المستقبل إقناع جمهوره أنّ ما حصل لم يكن فقط الخيار "الوحيد"، لا بل كان بطولةً ما بعدها بطولة، بينما الحقيقة أنّ ما حصل يناسبه تماماً، هو الذي تدهورت شعبيته بشكل عميق، أخيراً، ولم يعد يضمن نتائج تعيده إلى المجلس النيابي، بصفته الكتلة الأكبر. أمّا حزب الله، والناطقون باسمه فيدّعون بشعبوية صمّاء، أنّه لا يمكن إلقاء الملامة عليهم، لأنّ "الشعب" الذين يشاركون بتجويعه، مع أقرانهم في الحكومة، هو المُلام، إذ إنه ببساطة... "لا يقول كلمته لمنع ما يحصل"! كما لو أنّ هذا الفريق ليس جزءاً من السلطة البورجوازية التي تصادر العمليّة الديمقراطية عند شعبها، كما عند إرادات باقي الشعوب العربيّة، كما لو أنّ لا مصلحة لديه في ما يحصل، وهو المهتم حصراً، الآن، في تركيز جهوده الحربيّة الإسناديّة العابرة للحدود، والتي لا يروق له أن تعمل، الآن، الآلة الدستورية "الداخلية" فتشوّش عليه. في أثناء ذلك، يزعق "التيار العوني" مولولاً حول "عدم ميثاقية التمديد"، بينما هو نفسه يمنع انتخاب أي رئيس جمهورية، ما عدا ماريشاله العتيد، لكن، في هذه الحالة، فإنّه يصرخ أنّ ذلك هو التصرّف "الميثاقي الديمقراطي الإصلاحي" للغاية.
قام أفراد الطبقة الحاكمة اللبنانية بانقلاب متكرّر على الشعب والدستور والقانون، بعد 20 يونيو/ حزيران 2013. وهو انقلاب بدأ إجرائياً فقط، حين مثّل النواب السابقون للمجلس النيابي، المنتهية ولايته، مسرحية سمّوها "التمديد"، بعد انتهاء الدورة النيابيّة الأخيرة. لا يمكن لأي برلمان أن يمدّد لنفسه، من دون الرجوع إلى سلطة الشعب، وذلك عندما يحصل لا يمكن أن يكون سوى انقلاب على الديمقراطية البرلمانية. يبقى ذلك صحيحاً، حتى لو ادعى الانقلابيّون أنّ "الأحداث الأمنيّة" التي تشتعل بضراوة، مصادفةً كلّ مرّة، وقبل مدّة قليلة من كلّ عمليّة انقلابيّة، يخططون لها، إنّما هي التي تمنع قيام الانتخابات. إذ ذاك يحقّ طرح السؤال التالي: لماذا لا يقوم اللبنانيون بثورة شاملة على محكوميهم، حين ألغى المغتصبون للسلطة ومن طرف واحد، العقد الاجتماعي الذي يربط المواطنين بهم؟
بعيداً عن الشعبوية النخبويّة شبه اليساريّة السائدة في لبنان، والتي لا تتوقف عن شتم الشعب على "تخاذله"، والمزايدة عليه، في حين أن أكثر من يقولون ذلك يعملون كتبة ومهرّجين لدى البورجوازية الحاكمة نفسها، فإنّ الجواب يبدأ من سنة 2005 بعيد انسحاب الجيش السوري من لبنان، والانقسام السياسي العميق الذي بدأ بين 8 و14 آذار. حينها، بدأ التذرّر البطيء للمواطنة، عبر نسف الإجماع الاجتماعي للبنانيين على المستوى النفسي، أوّلاً، ليتحوّل التمترس السياسي بين 8 و14 آذار إلى ما يشبه حرباً ضروساً بين عدوّين لدودين، بدلاً من خصومة سياسية "ديمقراطيّة" بين أبناء بلد واحد، حيث قام كلّ طرف بتغذية وسائل إعلامه، مذهبيّاً وعنصرياً، ضدّ الآخر، إلى درجة الإفناء المتبادل الكامل على المستويين، الرمزيّ والمعنويّ. أدّى ذلك إلى بناء ما يشبه الجدران النفسيّة، السميكة جداً، بين اللبنانيين التي يصعب كسرها.
أتت بعدها حرب تمّوز 2006 على لبنان، فاتّهم 8 آذار الآخرين، مع جماهيرهم، بأنّهم كانوا يتمنّون انتصار إسرائيل على "حزب الله" بلهفة، ما ولّد شعوراً عميقاً بالنقمة والتخوين لدى نصف اللبنانيين تجاه النصف الآخر. توالت بعدها سلسلة من الحشود المليونيّة المتبادلة بين 8 و14 آذار التي رسخت الانقسام المذكور، معطوفاً على الاتهامات التي أصبحت تساق ضد النظام السوري وحزب الله باغتيال رفيق الحريري. كان بعدها أيار 2008 حين لم يتورّع فيه حزب الله عن استعمال قوته العسكرية داخليًاً، في مواجهة 14 آذار الذين كان يديرهم السفيران، الأميركي والفرنسي، في بيروت، ما ولّد شعوراً معاكساً بالمرارة والنقمة.
طالت هذه الشحنات المتبادلة من النقمة والعدائية عامة الناس في حياتها اليوميّة، أما أفراد الطبقة الحاكمة، فبقوا يتشاركون الغذاء على موائدهم العامرة، كما لو أنّ شيئاً لم يكن، وبقيت مختلف أطياف البورجوازية تقيم الصفقات في ما بينها، على حساب الناس بكل محبّة ووئام. والدليل البيّن على ذلك أنّ أولى مراحل الانقلاب الدستوري، الذي أصبح ناجزاً اليوم، بدأ "اقتصادياً" منذ عام 2006، مع عدم إرسال الحكومات المتعاقبة مشاريع الموازنة إلى مجلس النواب. الترجمة الفعلية لذلك مفادها بأنّ المال العام الذي بات، منذ ذلك الوقت، يصرف من غير وجه حق، توافق الطرفان 8 و14 آذار على عمليّة نهبه خارج الإطار الدستوري. وحتّى الضوابط الدستورية، القليلة جداً، بالمقاييس العالميّة للاقتصاد الرأسمالي المتوحّش، بنسخته اللبنانية، أصبحت تمثل عبئاً تقنيّاً على السلطة الحاكمة التي تجاهلتها باستمرار.
تعايش اللبنانيون مع ذلك كله بصبر وترقّب، لتخيّلهم أنّ النهب المنظّم والمستدام الذي يتعرّضون له من الرأسماليين الحاكمين والزعماء الأفذاذ لن يتغيّر كثيراً، سواء أكان هنالك مشاريع ميزانيّة أم لا. وبما أنّه لم يكن هناك من حزبٍ، أو أحزاب يساريّة تواجه جديّاً تلك الدينامية، فإنّ معظم اليساريين اللبنانيين انقسم وراء كلّ من الفريقين اليمينيّين، وتبيّن، ببطء، أن الحظوظ الممكنة للخروج من هذا النفق كانت قليلة منذ البداية. بعد 2011، تغوّل الانقسام بين اللبنانيين إلى حدود تصدير عداواتهم الطائفية إلى الساحة السورية. أصبح هنالك قسم يناصر الثورة السوريّة بمنظور مذهبي في أحيانٍ كثيرة، وقسم معادٍ لها تحوّل إلى جيش غزو مذهبيّ. عنى ذلك أنّ ما تبقى من العقد الاجتماعي كان يجب أَن يلغى بين اللبنانيين، ليتمّ لكل طرف ما يريده. كان ذلك أمراً محتوماً. وما تمثّل يوم 20 يونيو/ حزيران 2013 انقلاباً على دستور البلاد، كان مجرّد النتيجة النهائية الشكلية لما كان يحصل يومياً بسرعة كبيرة: كانت الجمهورية اللبنانية الثالثة تصارع المرض العضال، كلّ يوم، والتي أصبحت منذ 2011 عمليّاً جمهورية - جثّة.
يحسّ اللبنانيون، كلّ يومٍ تقريباً، أنّ اللعبة السياسيّة في مكان ما أفلتت من بين أيديهم، وأنّ الطبقة الحاكمة التي كانت، منذ زمن بعيد، غير معنية بمصائرهم كشعب، إنّما هي تنتظر المنتصر في سورية لتحصد في لبنان الأرباح. وطغى على الجميع الاقتناع بأنّ الحسابات الخارجيّة، الآن، لن تسمح بقيام سياسة شعبيّة ضد من يحكمهم. إذ ذاك لم يكن هناك أيّ حظّ ليهبّ اللبنانيون في ثورة شاملة، موحّدين ضد ما يحصل، هم المحاصرون في قوتهم اليومي والمقسّمون والخائفون من بعضهم إلى حدّ المذهبية الفجّة، والذي يتمّ التلاعب فيهم إعلاميّاً طوال الوقت. والأهمّ أّنه ليس هنالك من جهة سياسية مستقلّة شعبيّة، لا علاقة لها "بحراك مدني" يلعب دوراً تطهّرياً إعلاميّاً يقوم بالتعويض عن فقدان البديل الفعلي. نتكلّم، هنا، عن قيام جهة سياسية شعبيّة يمكن، من خلالها، أن يعيد اللبنانيون تنظيم أنفسهم لمواجهة ديمقراطية لتحصيل حقوقهم المسلوبة. ومع أنّ الوقت ليس في مصلحة من تبقى من الديمقراطيين، في هذا البلد، فإنّ المحاولات الجادة، في الفترة الأخيرة، لإعادة إحياء الحركة النقابية، قد تشكّل نواة الأمل في ذلك. ولذلك، حين سيربح أيّ من الأطراف في سورية مع وكيله اللبناني، فإنّ القيء البورجوازي اللبناني المتمثّل في الاستفراغ السياسي الذي نعيشه، والذي يشتمّ جميع من في الغرفة رائحته ما عداه نفسه، سيعيد ابتلاع نفسه، مجدداً، وينظّم "المسيرة الديمقراطية" الظافرة في الجمهورية-الجثّة اللبنانية. ولكن، في حياة الشعوب، كما في حياة الأفراد، لا يمكن إحياء الجثث. الجثث تدفن فقط، وحتى أنّ إكرام الميت دفنه.