تونس والأفق الديمقراطي
تميزت المرحلة الانتقالية في تونس باستقرار سياسي واجتماعي ملحوظ، فعلى الرغم من صعوبات واجهتها، فإنها استطاعت تجاوز احتمالات الاحتراب السياسي والاجتماعي الذي انحدرت إليه، بدرجات متفاوتة، دول عربية أخرى. ولعل أبرز مثال على ذلك توافق النخب السياسية التونسية، على اختلاف انتماءاتها الإيديولوجية والحزبية، على دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، تمهد الطريق أمام الجمهورية الثانية، في أفق إنشاء دولة مدنية حديثة، قائمة على المؤسسات والمواطنة واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان.
وإذا كانت معظم تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم تنبني على أساس وعي مختلف مكونات الطبقة السياسية، بضرورة صياغة أرضية للتوافق الوطني، تستوعب كل القوى السياسية والاجتماعية، في أفق إيجاد تعاقد جديد بينها، فإن تونس لا تبدو مبتعدة عن هذا المسار، مع الأخذ بالاعتبار سياقاتها السوسيولوجية والاقتصادية الخاصة بها. في هذا الصدد، يمكن الحديث عن عوامل رئيسية ساهمت، بدرجة أو بأخرى، في نضج التجربة التونسية، واقترابها من تحقيق السبق التاريخي السالف الذكر.
وتشير معظم الدراسات والأبحاث التي تناولت تجارب الانتقال الديمقراطي إلى أهمية دور الطبقة الوسطى، في قدرتها على مد الحقل السياسي بالموارد الثقافية اللازمة (الثقافة السياسية الحديثة)، للتوافق على كيفية إدارة الصراع السياسي والاجتماعي. وعلى الرغم من أن تشكل هذه الطبقة في العالم العربي لم يكن يوماً نتاجاً طبيعياً لتطور بنيات المجتمع المختلفة، فإنها كانت طرفا أساسيا في الصراع الاجتماعي في العقود التي تلت مرحلة الاستقلالات الوطنية. وقد لعبت هذه الطبقة في تونس، دائماً، دوراً مهماً في بناء وتشكيل قاعدة اجتماعية وسياسية للسلطة، مكّنت الأخيرة من الحفاظ على استقرار ملحوظ، خصوصاً في ظل معطيات في غاية الأهمية، مثل التجانس الثقافي والإثني للنسيج الاجتماعي التونسي، وجودة التعليم العمومي نسبيا، ووجود حد أدنى من الحس المدني داخل مختلف قطاعات المجتمع.
وتشير المعطيات السوسيولوجية، غالباً، إلى ارتباط الطبقة الوسطى، بكل مكوناتها، بمجتمع مدني فاعل ومنخرط في أسئلة المجتمع الأساسية وقضاياه. وفي هذا الصدد، لعب الاتحاد العام التونسي للشغل، بكل قوته التنظيمية التي اكتسبها منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبــة، دوراً مهماً في الحفاظ على التوازن الاجتماعي والسياسي في المرحلة الانتقالية، وفي المساهمة في إيجاد مساحات للتفاوض بين القوى والتيارات المحافظة من جهة، والعلمانية والليبرالية من جهة أخرى، خصوصاً بعد الرجة التي أحدثها اغتيال المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وعلى الرغم من صعوبات واجهها الحوار الوطني في مختلف مراحله، فإن الاتحاد العام للشغل استطاع، إلى جانب جمعيات ومنظمات مدنية أخرى، أن يدفع بهذا الحوار في اتجاه تسويات متوافَق عليها.
ولم يكن الجيش الوطني التونسي بعيداً عن السياق العام للثورة بكل منعرجاتها. ولذلك، شكل نوعاً من الحماية لهذه الثورة، بإحجامه، أولاً، عن التدخل لقمعها، وثانياً بمساهمته الواضحة في إعادة النظام العام، بعد فرار الرئيس المخلوع. وإذا كانت المؤسسة العسكرية في دول الربيع العربي الأخرى قد تحولت إلى طرف أساسي في الصراع على السلطة، كما في مصر، فإنها في تونس تحولت، بحكم عقيدتها العسكرية التي يغلب عليها الطابع المهني، إلى عامل مساعد في إنجاح الانتقال الديمقراطي، بنأيها بنفسها عن التدخل في الحياة السياسية، والتزام الحياد إزاء مختلف القوى السياسية المتصارعة.
ولعل أبرز ما واجه المرحلة الانتقالية في تونس تجاذبها مع محيط إقليمي مضطرب، لم يتوقف منذ اندلاع الثورات العربية عن إفراز تحولاته المختلفة. في ضوء ذلك، أظهرت النخب في هذا البلد نضجاً واضحاً في تعاطيها مع هذا المحيط، وقدرتها على قراءة هذه التحولات، والاستفادة منها قدر الإمكان، خصوصاً بعد إطاحة محمد مرسي في مصر وعودة العسكر إلى الإمساك بزمام الأمور، مع ما رافق ذلك من انتهاكات حقوقية كبيرة في حق المعارضين لهذه العودة. وعلى الرغم من وجود أصوات مؤيدة التدخل العسكري في تونس، وإقصاء الإسلاميين من المعادلة، إلا أن وعي هذه النخب بمخاطر هذه الخطوة على المجتمع ككل، كان له دور كبير في تجنب السيناريو المصري، وإنجاح المرحلة الانتقالية، خصوصاً بعد إحجام حزب النهضة الإسلامي عن الترشح لمنصب الرئاسة مرتين، وقبوله مبدأ تحالف القوى الإسلامية والعلمانية شرطاً لإنجاح هذه المرحلة، وتنازله عن التنصيص على مبدأ الشريعة الإسلامية في الدستور الجديد.
مع اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها، بانتخاب وتشكيل مختلف المؤسسات الدستورية الكبرى، تبدو هذه العوامل في وضع لاختبار مدى نجاعتها، في مواجهة محيط إقليمي معادٍ للديمقراطية بشكل عام، خصوصا بعد مآلات الثورة المخيبة للآمال، في كل من مصر وليبيا وسورية واليمن، وانخراط قوى دولية كبرى في مسلسل لإعادة ترتيب المنطقة وفق مصالحها الاستراتيجية. علاوة على ذلك، سيكون على النخب في تونس الحفاظ على هذا المكسب التاريخي الكبير، بإقرار مشروع متكامل لتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية متوازنة، تساهم في تعزيز هذا المشروع الديمقراطي الوليد والحفاظ على مقومات استمراره. فالديمقراطية ليست غايةً في حد ذاتها، بقدر ما هي آلية سياسية ومدنية، لإعادة توزيع الثروة والحد من الفساد وإقرار المساواة أمام القانون، وفتح باب المشاركة السياسية أمام الجميع. ولذلك، ربما يفتح نجاح تونس في اجتراح عبور آمن وسلمي إلى دولة المؤسسات والقانون، أفقا أحوج ما تكون إليه المنطقة العربية.