البشير من أوكامبو إلى بنسودا
قبيل مغادرته موقعه مدعياً للمحكمة الجنائية الدولية، وفي لقائي الأخير معه في الدوحة، كان لويس مورينيو أوكامبو يقول لي "فعلنا كل المطلوب منا، وفي حدود صلاحياتنا، وفي حدود المطلوب منا من مجلس الأمن الدولي". وعندما كان يقدم خطابه الأخير أمام مجلس الأمن، دعا أعضاء المجلس بقوله "على أعضاء مجلس الأمن الدولي التوفيق بين مصالحهم الوطنية ومسؤولياتهم بشأن السلام والأمن". وفي كل مرة التقيته فيها كان يعيد مذكراً "أن مثول الرئيس عمر البشير أمام المحكمة الجنائية مسألة وقت". وعندما كنت أسأله لماذا لايتم القبض عليه في أي من العواصم التي كان يزورها، كان يجيب: "نحن جهة نطبق القانون، ولسنا قراصنة". وكان يؤكد أن مسألة القبض على البشير من السهولة بمكان. لكن، هذا لن يتم إلا بموجب تكليف صريح من مجلس الأمن الدولي، وليس من اختصاص المحكمة وحدها.
الآن، وبعد مرور عقد تقريباً على مأساة دارفور، يبدو أن المدعية في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، قد وصلت إلى النقطة نفسها التي توقف عندها أوكامبو، وأرادت أن ترمى الحجر الذي رماه أوكامبو قبلها في بركة مجلس الأمن الراكدة. والأرجح أن أحد أسباب بنسودا، في قرارها أخيراً، تطورات الأحداث في دارفور، والحديث عن حالات اغتصاب جماعية في الإقليم المضطرب. وهي تقول لمجلس الأمن إن التساهل أمام المجرمين في دارفور يجعلهم يرتكبون المزيد من الفظائع. أضف إلى ذلك حالة التجاذب، الحادثة الآن، وعلى خلفية التحقيق في جرائم الاغتصاب التي تطالب بها القوة الدولية، وبين الحكومة السودانية التي ذهبت إلى النهاية مطالبة برحيل القوات الأممية الأفريقية (يوناميد) في دارفور عن السودان. وهذا التجاذب وحده نذير بعاصفة جديدة، تتجه نحو الخرطوم.
وبلا شك، أسيء فهم حديث بنسودا كثيراً في الخرطوم، بينما هو في الواقع ذهب إلى أبعد كثيراً من نقطة أوكامبو إلى محاولة صريحة لاستصدار قرار واضح أكثر قوة من مجلس الأمن، يمنح المحكمة صلاحيات أوسع، ويحرك القضية برمتها نحو نقطة متقدمة، تفضي إلى تضييق الخنّاق على الرئيس السوداني، ومثوله أمام المحكمة الدولية. وأغلب الظن أن بنسودا تستغل الوجه الإيجابي للمحكمة، بعد حفظ قضية الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، الذي مثل أمامها، لتؤكد أن المحكمة ليست كلها شراً محتوماً مسلطاً على إفريقيا. وهاهي تعيد طرح قضية دارفور أمام مجلس الأمن والتذكير بأهمية محاسبة الرئيس السوداني، وكل من ثبت تورطهم في الجرائم التي ارتكبت في دارفور. كذلك فإن توقيت بنسودا ومخاطبة مجلس الأمن فيه استباق لنداءات أفريقية ودعاوى متكررة من الرئيس اليوغندي، يوري موسيفيني، بأن تكون القمة الأفريقية المقبلة التي سوف تستضيفها بلاده قمة الانسحاب الأفريقي من ميثاق روما، ومن أي التزام تجاه الجنائية الدولية. وليس معلوماً، حتى اللحظة، ما الذي جعل الرئيس السوداني، عمر البشير، يشعر بكل تلك الغبطة، فيما الأمر يدعو إلى الحذر والخوف مما هو آت.
لم يتغير شيء أبداً، بل إنه يسير نحو نقطة مقلقة جداً. فالاتهام بارتكاب جرائم اﻹبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في دارفور قائم. والأدلة الدامغة التي حصلت عليها محكمة الجنايات، وكل أركان القضية، متوفرة. وأذكر، هنا، أن صحفيين دهشوا عندما حدثنا أوكامبو عن أن النسبة الغالبة من الأدلة الدامغة قد تسلمها، كمدع عام، جاءت من جهات سودانية، ومنهم النائب العام في السودان ووزارة الدفاع السودانية، عدا تقرير لجنة دفع الله الحاج يوسف، والتي كلفتها الحكومة والبرلمان السوداني لتقصي الحقائق، واعتبره أوكامبو دوماً أساساً جيداً لإقامة محكمة داخل السودان، وهو ما لم يحدث. ومن هذا الباب بالذات، أي غياب القضاء الناجز في السودان وموالاته الصارخة للحكومة والحزب الحاكم، دخلت الأسرة الدولية، وجاء أوكامبو والمحكمة الدولية وبنسودا.
وفي الواقع تبعث بنسودا الحياة في كلمات أوكامبو وقوله "أن العالم لم يبذل الجهد المطلوب في دارفور" . وعندما تقول بنسودا امام ذات المجلس "في ظل عدم تحرك مجلس الأمن بشأن ما يحدث في دارفور لم يعد أمامي من خيار سوى وقف مجريات التحقيق في دارفور". والفهم الصحيح هو أنها ترمي بحجر ثقيل جداً أمام الأسرة الدولية . وكما قال أوكامبو من قبل فإن ما يجري في دارفور هو "عار على السودان وعلى البشير وعار على العالم ". لذا من الخطأ ان يفهم الرئيس عمر البشير ان المحكمة فيها إذلال للشعب السوداني لأن ما جرى ويجري في دارفور جريمة وبشعة ويندي لها الجبين. والجريمة ثابتة كما جاء في تقرير دفع الله وفي كلماته نفسها عن اعداد الضحايا . ولو لم تكن هناك جريمة وظلم في دارفور وسوء في الحال لما كان لنا أن نسمع بأوكامبو من قبل ولا بنسودا اليوم . والسؤال هو متى يدرك الرئيس البشير وحزبه الحاكم وبعيدا عن المطاردة السقيمة للجنائية الدولية حقيقة أن استمرار القتل والدمار يقود شعب دارفور يوما بعد الآخر الى البحث عن مصير مختلف. وعندها فقط سيدرك البشير وبعد فوات الأوان أن وحدة السودان وأمنه ستكون الثمن الباهظ لسلامته الشخصية .