في أحوال "11 سبتمبر" اللبناني
يوم 11 سبتمبر/أيلول الجاري، ظهر فيديو جديد لرجل لبناني من بلدة عبّه الجنوبيّة، يهدد فيه ثلاثة أطفال سوريين بالذبح. يمسك مديةً يحركها أمامهم، كمن يعرض الحلوى. الأطفال يبكون. رؤوسهم تكاد تنفجر من العويل، بينما هو يخيّرهم "من تريدون أن أذبح منكم أولًا؟". يزيد صراخ الأطفال المرعوبين، بينما يحاول أحدهم "التفاوض" ببراءة، ليأتيه "السؤال": هل أنت داعش؟ إنّ "سؤال" الرجل الموتور يفصح كثيرًا عن الحالة النفسية العصابيّة التي بات يعيشها جمهور لبناني كبير، أكثره من الجماهير المساندة لحزب الله وحركة أمل، وبشكل أقلّ جزء من جماهير الأحزاب الحليفة لهم في قتالهم في كلّ من سورية والعراق، والذين باتوا يعيشون في حالة هستيريّة من عنصريّة موجّهة للنازحين السوريين على طول الأراضي اللبنانيّة وعرضها.
منذ البداية، بدأ الضخ الإعلامي البروباغندي من حزب الله صوب جمهوره. مئات الآلاف من الناس التصقوا بشاشاته وجرائده، مصدّقين كلّ ما يقال فيها. كان حزب الله حينها بحاجة إلى شد العصبية المذهبيّة لجمهوره، فبدأ بدعوى "حماية المراقد"، إلى أن انتهى بقتال ضد ثورة العشائر العراقيّة، وصولًا إلى سلسلة جبال "القلمون" وجرود عرسال. كان الناطق الرسمي يعلن لمن يقاتلهم في سورية "فلنتقاتل في سورية، ولندع لبنان جانبا". كان من المفترض أن يتمّ القضاء على "المؤامرة الكونية الصهيو-أميركية" في أقلّ بكثير من ثلاث سنوات، ليعود الجميع إلى بلادهم سالمين، وكأنّ شيئًا لم يكن، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن. اليوم، أصبح "الشباب" يقاتلون في سورية بشكل دائم، وهم، في الوقت نفسه، أصبحوا حلفاء علنيين للامبريالية الأميركية في "الحرب على الإرهاب"، بينما تبين أنّ آخرين مستعدّون لقتل نازحين سوريين في لبنان!
في المحصّلة، كلّ ما سبق يعني أنّ ثمن تصدير حزب لله "الحرب على الإرهاب" من لبنان نحو سورية، لا يعادل ثمن استيرادها مجددًا نحو "عدو داخلي" في لبنان. يتمّ التناسي أنّ لتدخله العسكري شرف المساهمة بالزيادة الكبيرة لنسبة النازحين السوريين إلى المناطق اللبنانية الآهلة القريبة في القصير والقلمون والنبك وغيرها. لكنّ هذه "الضريبة" الذي تمّ دفعها سورياً ولبنانيّاً، تحوّلت، بحد ذاتها، أخيراً إلى سلعةٍ سياسيةٍ قابلة للاستعمال: "النازحون السوريون" هم النسخة المعدّلة الجديدة عن "الغريب". النسخة الأولى كانت "الفلسطيني"، وهي تمّت بتصنيع نخبوي يميني ماروني في بداية السبعينيات من القرن الماضي، أما الثانية "للغريب" فهي من تصنيع وعي يميني شيعي شعبوي، بدأ يتمظهر خصوصاً في الطبقات الأدنى من جماهير الحزب. لكن، لكلّ سلعة استخداماتها، إذ ينقسم الأمر، هنا، إلى مستويين:
الأول، هو الاستعمال أمني-عسكري، فذريعة النازحين السوريين أصبحت مطيّة لتبرير عودة "الأمن الذاتي" إلى المناطق المسيحيّة خصوصًا. وما نشر عن إنشاء حزب الله "سرايا مقاومة مسيحية"(!) عبر تسليح أفراد من التيار العوني، ودفع أجورٍ لهم في جزين، وغيرها، يعني أنه، عمليًّا، أصبح الحزب يعتبر أنّ في وسعه الاتكال على جهود عسكرية لأطراف سياسية "مسيحيّة"، بعد أنّ استطاع في المواجهات في بلدة عرسال اللبنانية الحدودية مع سورية أخيراً، ومن خلال لعبة إعلامية محسوبة رافقتها، أن يستميل جزءاً مهماً من الرأي العام عند "المسيحيين" اللبنانيين صوبه. ومنطقيًا، ستتبع هذه التشكيلات "الجديدة" برمّتها إلى سلطته الموحّدة، وتنفذ استراتيجيته العسكرية.
أما المستوى الثاني فيبدأ بملاحظة أنّ "الآخر" الذي تتم مهاجمته وإرهابه جسدياً ورمزيًا، ينزع أخيراً إلى أن يكون اليوم "النازح السوري" حصرًا، وليس "اللبناني السنّي" أو "الفلسطيني". ويبدو هذا التوجيه الحصري للآخرية كما أنّه لو يخفّف الضغط من تبعات توجيهها إلى لبنانيين آخرين، يمتلكون، أيضًا، إمكانات الإيذاء المعاكس، مع كل ما يًفترضه ذلك من احتمالاتٍ كامنةٍ لحروب أهلية "طائفية". فهنالك دائمًا عملية دفاعية حسابية، يقوم بها المهاجم لاحتمالات العواقب، إذا ما ردّ عليه المدافع. فبعد السنوات الثلاث الماضية، وخصوصا "أحداث عرسال" أخيراً، وما تخلّلها من خطف عشائري متبادل، اتضح أنّ الثمن الذي قد يضطر المهاجم اللبناني "الشيعي" أن يتحمله من اللبناني الآخر "غير الشيعي" قد يكون، أحياناً، أكبر من القدرة على الدفع، خصوصاً مع أولوية ضرورة تأمين الجهد العسكري بشكل مستمرّ عبر المحافظة على استقرار نسبي في الخطوط الخلفية.
من نتائج ذلك كله التخفيف بالنسبة لأكثرية من اللبنانيين من إحساسهم بوجود شواذٍ غير معقول ومستدامٍ، لأنه، ببساطة، لا يطالهم "هم"، بل يطال النازح السوري. فبعد ذبح مسلحين من "داعش" العسكري الشهيد عباس مدلج، في جرود القلمون، قطعوا طرقاتٍ من أصبحوا مقتنعين أنّ كلّ بلائهم أتى من "هؤلاء السوريين" الذين تساووا في أذهانهم "بالتكفيريين". النتيجة: 56 جريحًا في اعتداء على نازحين في الضاحية الجنوبية بالسكاكين والعصي. عمليات اعتداء متفرّقة في البقاع وتهجير للنازحين. تكبيل نازحين سورييْن اثنين في وسط الطريق المؤدية إلى مدينة بعلبك. ذلك كله تمّ طبعًا من دون أن نسمع صرخة احتجاج رسميّة واحدة. تصرّف "المسؤولون" اللبنانيون كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، بينما كان العزّل يهاجمون في الطرقات.
في خضمّ ذلك كله، لا يمكن حتمًا الادعاء أنّ كل من يساند حزب الله سياسياً في لبنان فرد موتور طائفيًّا، فهناك دائماً درجات وتنويعات بين الناس. وهنالك حتمًا من يحافظ على سويّته الأخلاقيّة، ويعارض هذا الجنون، ولو ناصر حزب الله سياسيًا. لكن، يبقى، في الأصل، أنه لا توجد مشكلة أمنيّة، قد تسببها تلك الشريحة من "المتنوّرين". من نتكلّم عنهم هنا هم تحديدًا الصنف الذي قد يتجرأ على تهديد نازحين أطفال بالذبح، ثم ينشر فيديو عن ذلك. بالنسبة لهؤلاء، هنالك خط صغير يفصل ما بين المشاهدة والقتل. وهذا الأمر بجب أن يوضع في الحسبان، إذا ما استجدّ ما يحصل أكثر.
لكن، سياق ما يحدث أخيراً من تبلّر للعنصرية الشديدة تجاه النازح السوري، والذي يتجلّى، اليوم، عند قسم كبير من الجماهير اللبنانية "الشيعيّة"، يوحي كذلك بظاهرة جديدة، خطيرة جداً تتجلّى في الفرق النوعي بين ما تلا استشهاد العسكريين الاثنين والتدهور الأمني الكبير. الاول "السنيّ" (علي السيّد) والثاني "الشيعي" (عبّاس مدلج) والذي رافق الحدث الثاني: كأنما هنالك انفصال شعوري ونفسي تام بين أيّ شيء يوحّد بين مصير "الشيعي" مع مصير "غير الشيعي" في لبنان. وذلك هو النتيجة المدهشة والملموسة لأيديولوجية مذهبيّة صارخة مقفلة على ذاتها، بعد ثلاث سنوات من القصف الإعلامي اليومي، أدّت، فيما أدّت، إلى إنتاج منظومة تفكير في "الآخر"، أشبه بما تكون عملية اختراع "لعرقٍ" جديد، هو "العرق الشيعي". إنّه إختراعٌ أصبح يعيش في رؤوس كثيرين من "شيعة" وغير "شيعة" لبنانيين كذلك، حيث إنّ كثيرين من "غير الشيعة" ساهموا، أيضًا، بتقوية هذه الدينامية، والتي تقول إنّه يوجد "شعب جديد"، الآن، هو "الشعب الشيعي". هذا "الشعب" غير موجود طبعًا، وهو لا يتقاطع مع أيّ واقع حقيقي تاريخي، بل هو وهم قاتل يعيدنا بالأحرى إلى ظاهرة شبيهةٍ بما أنتجته الأيديولوجية اليمينية "المسيحية" خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والتي ولّدت مقولات عنصرية، مثل "الشعب الماروني" و"الشعب المسيحي".
عمليًّا، لا يمكن لك أن تشحن الناس ثلاث سنوات بشكل مذهبي وجنوني، ثمّ تفاجئك هكذا نتائج عنصرية وعصابية. الناس ليست روبوتات، بل كائنات تحسّ، وفي معظم الأحيان، تفعل ذلك بطريقة دون بشرية. والامر برمتّه يجسّد كيف يمكن أن تفلّت الأحداث بشكل مأسوي من بين يدي النخب المخطّطة نحو آفاق غير متوقّعة، وبين المحاولة المستمرّة من تلك النخب ذاتها، للاستفادة مجدداً مما يحصل في سبيل تحقيق مسعاها الاستراتيجي الثابت الذي لا تحيد عنه. أمّا الواضح فهو أنّه لا يمكن الردّ على ذلك كله من النخب السوريّة، باستثارة عنصرية مضادة للبنانيين. فالعنصرية المضادة لا يمكن إلا أن تزيد الأمر سوءا للجميع، خصوصاً إذا علمنا، وعلى الرغم من كلّ شيء، أنّ المنظمات الدولية تصنّف "الضيافة" اللبنانية للسوريين بأنها الفضلى حتى الآن، وأفضل بكثير مما يقدّمه الأتراك أو الأردنيون مثلًا. الحلّ الترقيعي، الآن، يكمن في محاولة تطبيق "القانون"، على الرغم من أنّ هذا الأمر أصبح يمثّل مجرّد احتمال نظريّ في واقع الحال!