31 مايو 2017
للقضاء على لبنان توفيق خوّام
تثبت التطوّرات السريعة التي حصلت، أخيراً، في لبنان، في ملفّ النفايات والاحتجاجات الشعبية التي أنتجها ذلك، وقمع السلطة اللبنانية لها، أنّ المهمة التي أمام اللبنانيّين الذين تحركوا، في الشهرين الماضيين، من أجلها لم تكن أبداً سهلة. اتسم موقف قسم من السلطة الحاكمة تجاههم ما بين ردّ عنيف أمني "رسمي" بقيادة وزير الداخلية التابع لتيار المستقبل، نهاد المشنوق (14 آذار)، وردّ تشبيحي "غير رسمي"، قوامه إرسال بلطجية تابعين لحركة أمل، بزعامة نبيه برّي (8 آذار)، لضرب المتظاهرين السلميين، بينما اتخذ القسم الباقي من السلطة موقفاً آخر يتأرجح بين محاولة الاستفادة منها عبر المزايدة الشعبويّة (سامي الجميّل وسمير جعجع) والسخرية والعمل على نصب الأفخاخ السياسيّة (وليد جنبلاط) فيما سمّي خطّة أكرم شهيّب، بالإضافة إلى الهجوم الإعلامي التشويهي المغرض (جناح "العونيّين" في 8 آذار) وبث "نظريات المؤامرة" (معزوفة "هؤلاء هم عملاء أميركا" المملّة)، بالإضافة إلى الموقف الحيادي السلبي الذكي الذي أخذه حسن نصر الله أخيراً، ويدخل في التأكيد على تشابك المصالح مع حليفه المباشر، نبيه برّي.
تمثّلت استراتيجية النواة الصلبة للنظام القائم (الحريري/السنيورة - بري - جنبلاط) لمواجهة الناس المحتجّة بهجومين متوازيين: قمع جسدي مشترك للناس (برّي - المشنوق، 8 و14 آذار) من جهة، وعملية نصب فخّ قاتل للتحرّك من جهة أخرى، تمثلت بمحاولة سحب النفايات من الأرض، بأقصى سرعة وكيفما اتفق، من خلال الثلاثي (جنبلاط - شهيّب - المشنوق) من أمام أعين الناس وأنوفهم، عبر عمليّة ترغيب وترهيب مزدوجة، بطرق غير علمية، ومكلفة جداً على البيئة والمواطن اللبنانيين. فبعد ارتباك أوّلي في فترة أول شهر، فهم النخاع الشوكي للنظام ضرورة سحب الأداة الملموسة اليوميّة التي تثوّر أعداداً متزايدة من الناس، وتحولهم إلى خصوم لها. وأنّ هذه أداة طبيعية تعمل وحدها: بقاء النفايات في الشوارع. صحة الناس، الكوليرا والروائح الكريهة... ذلك كله يمكن أن يذهب الجحيم بالنسبة لحكّام هذه البلاد: إنّ هذا لا يعني السلطة في شيء. ما يعنيها إزاحة البرهان اليومي على فشلها أمام جماهيرها، والذي يزيد أكثر من أيّ شيء آخر أعداد الناس في ساحة رياض الصلح. لذلك، كان من الضروري طمر النفايات، وبالمعنى الفجّ للكلمة، أيّ إخفاء النفايات تحت الأرض، أو بعيداً عن أعين الناس. ومن الأفضل أن يكون ذلك "اليوم اليوم وليس غداً". ما تأمله النواة الصلبة للنظام أن ذلك سيخفف كثيراً من حماسة الناس في النزول إلى الشارع للتظاهر. وقد تكون مصيبة في رهانها على ذلك. عملت أطراف النظام جاهدة على رشوة وترهيب رؤساء البلديات والمخاتير في البلدات المعنية في المناطق الطرفية (بقاع، عكار) من أجل وقف المدّ الشعبي المتزايد، والقبول بالمطامر "غير الصحية": فجأة بين ليلة وضواحيها، تغير موقف هؤلاء، وقبلوا وجود النفايات في بلداتهم.
يأخذنا ذلك كله إلى المعنى المميّز للأداة التثويرية التي توفرت أمام التحرّك الشعبي، وهي
"بقاء النفايات في الشارع"، فهي قد أكسبته سلاحاً مهماً، هو ثقة الناس فيه، بما فيه الذين لم ينزلوا إلى التظاهرات: كلّ اللبنانيّين، اليوم، لم يعودوا يثقون في السلطة الحاكمة، وكل هؤلاء لا يريدون مكبّاً أو مطمراً في مدينتهم أو قريتهم أو منطقتهم. وهم إذا كانوا سيصغون لأحد في كلّ هذه المعمعة، فسيصغون إلى قادة التحرّك ورموزه الذين امتلكوا قلبهم وعقلهم. وهذا أمر ممتاز تمّ تحقيقه. هذه هي تحديداً الورقة الثمينة القوية بيد التحرّك الشعبي من الآن: ثقة الناس بهم، من أجل الضغط على السلطة السياسية، لكيّ يتوسّع أفقياً بالمعنى الجغرافي، في مدن وبلدات أخرى من البلاد خارج بيروت. فأمام محاولة السلطة الالتفافية المتمثّلة بما عرف "بخطة شهيب"، ردّ ممثلو الحراك بشكل مفصّل، أن قدّموا اقتراح خطة طوارئ كاملة متكاملة (جريدة الأخبار البيروتيّة، 29 سبتمبر/أيلول 2015) واضح أنّها تتفوق على "خطّة" شهيب في كلّ النواحي. وهم يأملون بذلك أن تتجاوب السلطة معهم، للوصول إلى حلّ مرضٍ وعلمي. وذلك غير مضمون بعد، خصوصاً في مسألة مركزية إنشاء حساب الصندوق البلدي المستقلّ. الأمر الآخر أنه إذا ما ظلّ الأمر محصوراً بالنفايات، فسيكون على ممثلي التحرّك الشعبي أن يصرعوا أدمغة الناس في حروبٍ كلامية تقنية حول "أنجع الخطط البيئية"، ومن خطته "أفضل"، والناس تريدون شيئاً أبسط. إذ إن فنون أداء الخبراء ورطانة التقنيين ستبعد الجزء الأكبر من الجماهير اللبنانية عن الإحساس بأنها ما زالت متعلّقة بالهدف الأصلي، والذي لم يكن يوماً هو "معالجة النفايات" حصراً، بل كان استعادة شرعية الدولة. ولذلك، من الحيوي، الآن، البحث عن طرق لتطوير الأدوات التكتيكيّة لهذا التحرّك الشعبي، من أجل الإبقاء على وتيرة الضغط عالية.
المسار المنطقي للتحرّك الاحتجاجي، في هذه اللحظة، هو تحويله إلى أداة رقابية شعبيّة متنقّلة، تواجه فشل السلطة وعجزها أينما كان، سواء بالنسبة لمسألة النفايات عبر تحشيد الأهالي، أم غيرها من المطالب التي لا تقلّ أهمية، مثل رفع الأجور أو الكهرباء. إذ في كلّ يوم تفشل وتتأخّر فيه السلطة في طمر النفايات بشكل غير عشوائي وغير علمي وغير مدروس، ولا تلبّي فيه المطالب الأساسيّة للتحرّك التي تمّ إعلانها، يمكّن ذلك التحرّك الشعبي من الاستفادة من إبقاء أثر الجريمة ماثلاً أمام جميع اللبنانيين أكثر. وبالتالي، يطيل عملية تثوير الناس أكثر. بضعة أشهر من هذه العملية المعقّدة وغير مضمونة النجاح، والتي قد تديمها، على الأرجح، أخطاء هذه السلطة والصراعات البينية لمكوّناتها، ستجعل من عملية الاحتواء الجارية الآن شبه مستحيلة. بالتالي، تصبح عملية تعميم المطالب لكل الطبقة العاملة أسهل تقبلها سلّة متكاملة لا يمكن التنازل عنها. وسيأخذنا ذلك إلى الضغط جدّياً بمطلب الانتخابات النيابية الذي سيكون الحلّ الوحيد، والذي سيقود إلى تجديد شرعية السلطة من الشعب.
قد يكون هذا المسار الطريقة الوحيدة لإبقاء النافذة مفتوحة من أجل القضاء على "لبنان توفيق خوّام". البلاد التي انتحر فيها رجل يبلغ 87 عاماً تحت جسر "البسطة" في بيروت، بحرق نفسه بقنينة بنزين، تجرع جزءاً منها ثم أضرم النار بجسده. كان لديه محل لتنجيد الفرش في ساحة البرج في وسط بيروت، ثم طردته منه "سوليدير"، ثمّ قطعت رجلاه بسبب حادث، ثم أخرج لاحقاً بالقوة من منزله بسبب قانون الإيجار. لم يتحمل توفيق خوّام حياة الذلّ والمهانة والتسوّل، فقرّر الرحيل من هذه الدنيا، ففي لبنان الذي نحن فيه، أيّ واحد منّا قد يصبح توفيق خوّام. وإذ نأمل أَلا يكون سبق السيف العذل، فذلك إنذارٌ لنا جميعاً، لكي نعمل من أجل التخلّص من هذا اللبنان غير الإنساني، البارد القاتل لأهله والمهجّر لهم... وذلك بأقصى سرعة ممكنة، وبأقلّ كلفة، من أجل إعادة بناء لبنان كلّه، حب ودفء وطمأنينة: ذلك ليس أقلّ من واجب وطني على الجميع فينا.
تمثّلت استراتيجية النواة الصلبة للنظام القائم (الحريري/السنيورة - بري - جنبلاط) لمواجهة الناس المحتجّة بهجومين متوازيين: قمع جسدي مشترك للناس (برّي - المشنوق، 8 و14 آذار) من جهة، وعملية نصب فخّ قاتل للتحرّك من جهة أخرى، تمثلت بمحاولة سحب النفايات من الأرض، بأقصى سرعة وكيفما اتفق، من خلال الثلاثي (جنبلاط - شهيّب - المشنوق) من أمام أعين الناس وأنوفهم، عبر عمليّة ترغيب وترهيب مزدوجة، بطرق غير علمية، ومكلفة جداً على البيئة والمواطن اللبنانيين. فبعد ارتباك أوّلي في فترة أول شهر، فهم النخاع الشوكي للنظام ضرورة سحب الأداة الملموسة اليوميّة التي تثوّر أعداداً متزايدة من الناس، وتحولهم إلى خصوم لها. وأنّ هذه أداة طبيعية تعمل وحدها: بقاء النفايات في الشوارع. صحة الناس، الكوليرا والروائح الكريهة... ذلك كله يمكن أن يذهب الجحيم بالنسبة لحكّام هذه البلاد: إنّ هذا لا يعني السلطة في شيء. ما يعنيها إزاحة البرهان اليومي على فشلها أمام جماهيرها، والذي يزيد أكثر من أيّ شيء آخر أعداد الناس في ساحة رياض الصلح. لذلك، كان من الضروري طمر النفايات، وبالمعنى الفجّ للكلمة، أيّ إخفاء النفايات تحت الأرض، أو بعيداً عن أعين الناس. ومن الأفضل أن يكون ذلك "اليوم اليوم وليس غداً". ما تأمله النواة الصلبة للنظام أن ذلك سيخفف كثيراً من حماسة الناس في النزول إلى الشارع للتظاهر. وقد تكون مصيبة في رهانها على ذلك. عملت أطراف النظام جاهدة على رشوة وترهيب رؤساء البلديات والمخاتير في البلدات المعنية في المناطق الطرفية (بقاع، عكار) من أجل وقف المدّ الشعبي المتزايد، والقبول بالمطامر "غير الصحية": فجأة بين ليلة وضواحيها، تغير موقف هؤلاء، وقبلوا وجود النفايات في بلداتهم.
يأخذنا ذلك كله إلى المعنى المميّز للأداة التثويرية التي توفرت أمام التحرّك الشعبي، وهي
المسار المنطقي للتحرّك الاحتجاجي، في هذه اللحظة، هو تحويله إلى أداة رقابية شعبيّة متنقّلة، تواجه فشل السلطة وعجزها أينما كان، سواء بالنسبة لمسألة النفايات عبر تحشيد الأهالي، أم غيرها من المطالب التي لا تقلّ أهمية، مثل رفع الأجور أو الكهرباء. إذ في كلّ يوم تفشل وتتأخّر فيه السلطة في طمر النفايات بشكل غير عشوائي وغير علمي وغير مدروس، ولا تلبّي فيه المطالب الأساسيّة للتحرّك التي تمّ إعلانها، يمكّن ذلك التحرّك الشعبي من الاستفادة من إبقاء أثر الجريمة ماثلاً أمام جميع اللبنانيين أكثر. وبالتالي، يطيل عملية تثوير الناس أكثر. بضعة أشهر من هذه العملية المعقّدة وغير مضمونة النجاح، والتي قد تديمها، على الأرجح، أخطاء هذه السلطة والصراعات البينية لمكوّناتها، ستجعل من عملية الاحتواء الجارية الآن شبه مستحيلة. بالتالي، تصبح عملية تعميم المطالب لكل الطبقة العاملة أسهل تقبلها سلّة متكاملة لا يمكن التنازل عنها. وسيأخذنا ذلك إلى الضغط جدّياً بمطلب الانتخابات النيابية الذي سيكون الحلّ الوحيد، والذي سيقود إلى تجديد شرعية السلطة من الشعب.
قد يكون هذا المسار الطريقة الوحيدة لإبقاء النافذة مفتوحة من أجل القضاء على "لبنان توفيق خوّام". البلاد التي انتحر فيها رجل يبلغ 87 عاماً تحت جسر "البسطة" في بيروت، بحرق نفسه بقنينة بنزين، تجرع جزءاً منها ثم أضرم النار بجسده. كان لديه محل لتنجيد الفرش في ساحة البرج في وسط بيروت، ثم طردته منه "سوليدير"، ثمّ قطعت رجلاه بسبب حادث، ثم أخرج لاحقاً بالقوة من منزله بسبب قانون الإيجار. لم يتحمل توفيق خوّام حياة الذلّ والمهانة والتسوّل، فقرّر الرحيل من هذه الدنيا، ففي لبنان الذي نحن فيه، أيّ واحد منّا قد يصبح توفيق خوّام. وإذ نأمل أَلا يكون سبق السيف العذل، فذلك إنذارٌ لنا جميعاً، لكي نعمل من أجل التخلّص من هذا اللبنان غير الإنساني، البارد القاتل لأهله والمهجّر لهم... وذلك بأقصى سرعة ممكنة، وبأقلّ كلفة، من أجل إعادة بناء لبنان كلّه، حب ودفء وطمأنينة: ذلك ليس أقلّ من واجب وطني على الجميع فينا.