02 نوفمبر 2024
المجد للثورة... التونسية
أقيموا ما شئتم من حفلات التّمجيد المشبوه لعهد استبدادي ولّى وانقضى، وأطلقوا ما شئتم من فزّاعات التّخويف وصفّارات التّهويل وجوقات التّشكيك في حدث الثورة، وفي استحقاقات الحاضر والمستقبل، فلن أبالي بكم، ولن ألتفت إليكم، لأنّكم لن تصادروا بعد الثّورة بسمتي، ولن تؤجّلوا فرحتي، ولن تسرقوا أحلامي المشروعة والممنوعة. اليوم، أصبح عندي مكان تحت الشّمس، أصبح في وسعي أن أقول لا، أصبح من حقّي أن أفكّر كيفما أريد، وأن أقرأ ما أريد، وأن أكتب ما أريد، وأن أنقد من أريد. اليوم سقطت جدران الصّمت الصمّاء، وتهاوت قضبان السّجن الرّهيب، وتعالت الأصوات بالحرّية، وانبلج فجر جديد. وانتقل النّاس من التابعيّة للسّلطان وأعوانه إلى الفاعليّة في الشّأن العامّ، ودشّن الثوّار عصراً جديداً، بل مرحلة فارقة في تاريخ البلد، أصبح معها الإنسان يملك إلى حدّ كبير مصيره، ويختار حكّامه، ويسائل المسؤولين ويراقبهم، ويؤسّس لدولة الحقّ والواجب، وأصبحت الحرّيات العامّة والخاصّة وكرامة المواطن، وضمان حقّ الاختلاف وإقامة دولة القانون والمؤسّسات، وحماية التعدديّة الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة روح الدستور الجديد، وغدا تحديد صلاحيّات الرّئيس ومجالات تصرّف السّلطات، التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، مسائل يحدّدها الجدل المحتدم بين المواطنين، ولا يفرضها الحاكم بأمره. بعد الثّورة، سقطت الأقنعة، وتحرّر العقل السّياسيّ العربيّ، وأفل نجم الصنميّة المعاصرة التي أضفت على مدى عقود هالة من التّقديس على "الزّعيم الملهم" أو "الرّئيس المفدّى"، واتّجه النّاس نحو التّأسيس لحكم تعاقديّ، ونظام جمهوري ديمقراطي، ينظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويجعل الجميع تحت سلطان القانون، وفي خدمة الصّالح العامّ.
بعد الثّورة أصبح قلمي مرسلاً، واستعادت مكتبتي ألقها، وأصبح بإمكاني أن ألتحق بالوظيفة العموميّة في غير تفتيش في سيرتي وذاكرتي، ومن غير تزكية البوليس السياسي والعمدة والملفّ الأمنيّ الذي يعدّه شرطيّ، لم يتجاوز السّادسة من التّعليم الابتدائي، ومن غير مراجعة بطاقة سوابقي السياسية وغيرها من البطاقات الكامنة. بعد الثّورة، أصبحت أتمتّع بلذّة التّفكير في الهزيع الأخير من اللّيل، ولا أخشى أن يداهمني زبانية الدّيكتاتور بين الفينة والأخرى، ليفسدوا عليّ وعلى أفراد أسرتي هدأة ساعات نوم قليلة عابرة.
بعد الثّورة، لم أعد أرى صور كائن يسمّى "فخامة الرئيس" و"حامي حمى الدّين" في كلّ
زمان وفي كلّ مكان، كأنّه الإله يمشي على قدمين، ولم أعد أرى صوره على واجهة الصّحف اليوميّة، وفي مفتتح النّشرات الإخباريّة، وعند مداخل المدن وعلى حائط كلّ مكتبة وكلّ مؤسّسة، كأنّه طفل ضاع ويُفتَّش عنه، أو كأنّه فرعون العصر استولى على الحجر وعلى البشر وملك أبواب الأرض وأبواب السّماء، أرسل يده في البلاد والعباد بلا حسيب و بلا رقيب، كأنّه في مزرعته. بعد الثّورة، حلّ التّنسيب بدل الإطلاق، وسادت التعدّدية بدل الأحاديّة، وحلّ الانتخاب محلّ التعيين، وجرى التداول السلمي على السلطة، والتنافس الحضاري على الحكم، بديلاً عن التعسف والانقلاب. وانصرف النّاس إلى البناء، أو الاحتجاج بطرق شتّى. يعتريهم في الدّاخل شعور عارم بالحرّية، والفخر بالمساهمة في تغيير تاريخ العرب، وإطاحة أحد عتاة الطغاة في العالم، ويسكنهم شعور بالاعتزاز بالانتماء إلى هذا الوطن الذي أصبح يتّسع لكلّ بناته وأبنائه، فتفجّرت طاقات إبداعية مكتومة، وانطلقت سواعد أبيّة، وعقول نيّرة، وقلوب واثقة تنحت معالم الرّاهن، وتسعى إلى كسب معركة المستقبل، وتحويل الحلم إلى واقع على الرغم من صعوبات المرحلة، وبدا في الواقع أنّ الثّورة ذات أحلام كثيرة، منها ما تحقّق ومنها ما ينتظر. وبدا أنّ المتربّصين بها كثرة في الداخل والخارج، وأنّ حماتها أيضا ليسوا قلّة، والرّهان، الآن وهنا، على نشر ثقافة الثّورة وثقافة التنوير أصبح أمراً ضروريّاً أكثر من أيّ وقت مضى، حتّى لا تُسرَق العقولُ، وحتّى لا تُسٍتَلب الإرادةُ من جديد.
بعد الثّورة، لن أقرأ ديوان شاعري المفضّل محمّد الماغوط "الفرح ليس مهنتي"، لأنّ ديوانه أصبح لا يشبهني، فمن حقّي اليوم أن أفرح، لأنّي أصبحت "حرّاً طليقاً كطيف النّسيم"، وقد كنت أسيراً، بل مواطناً من درجة ثانية، ممنوعاً من العمل ومن النّجاح ومن السّفر ومن الحلم حتّى، على مدى سنين عدداً، لا لشيء إلاّ لأنّي كنت أفكّر وأفكّر وأقول لا، في زمن كانت فيه المعارضة جريمة، وكانت فيه حرية التعبير تهمة، يعاقب عليها قانون وضعه الدكتاتور على مقاسه. أمّا اليوم فوداعاً فوبيا السّياسة. وداعاً إرهاب الدّولة القامعة، وداعاً نظام الحزب الواحد والرّأي الواحد والزّعيم المعصوم. مرحى لعصر الحرّية. أنا تونسيّ، إذن أنا حرّ. إنّه كوجيتو المرحلة الجديدة.
بعد الثّورة أصبح قلمي مرسلاً، واستعادت مكتبتي ألقها، وأصبح بإمكاني أن ألتحق بالوظيفة العموميّة في غير تفتيش في سيرتي وذاكرتي، ومن غير تزكية البوليس السياسي والعمدة والملفّ الأمنيّ الذي يعدّه شرطيّ، لم يتجاوز السّادسة من التّعليم الابتدائي، ومن غير مراجعة بطاقة سوابقي السياسية وغيرها من البطاقات الكامنة. بعد الثّورة، أصبحت أتمتّع بلذّة التّفكير في الهزيع الأخير من اللّيل، ولا أخشى أن يداهمني زبانية الدّيكتاتور بين الفينة والأخرى، ليفسدوا عليّ وعلى أفراد أسرتي هدأة ساعات نوم قليلة عابرة.
بعد الثّورة، لم أعد أرى صور كائن يسمّى "فخامة الرئيس" و"حامي حمى الدّين" في كلّ
بعد الثّورة، لن أقرأ ديوان شاعري المفضّل محمّد الماغوط "الفرح ليس مهنتي"، لأنّ ديوانه أصبح لا يشبهني، فمن حقّي اليوم أن أفرح، لأنّي أصبحت "حرّاً طليقاً كطيف النّسيم"، وقد كنت أسيراً، بل مواطناً من درجة ثانية، ممنوعاً من العمل ومن النّجاح ومن السّفر ومن الحلم حتّى، على مدى سنين عدداً، لا لشيء إلاّ لأنّي كنت أفكّر وأفكّر وأقول لا، في زمن كانت فيه المعارضة جريمة، وكانت فيه حرية التعبير تهمة، يعاقب عليها قانون وضعه الدكتاتور على مقاسه. أمّا اليوم فوداعاً فوبيا السّياسة. وداعاً إرهاب الدّولة القامعة، وداعاً نظام الحزب الواحد والرّأي الواحد والزّعيم المعصوم. مرحى لعصر الحرّية. أنا تونسيّ، إذن أنا حرّ. إنّه كوجيتو المرحلة الجديدة.