موسم الانتقـام من الثورات العربية
لم يكن يخطر على بال الجموع التي احتشدت، قبل أربع سنوات، في الساحات والميادين، مطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، أن مآل معظم الثورات العربية سينتهي إلى هذا الحال من انتشار الفوضى، والاحتراب الطائفي والأهلي، والصراع على السلطة، وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتزايد تدخل القوى الكبرى والإقليمية في شؤون المنطقة، لتوجيه الأحداث والتحكم بها.
اليوم، وبعد عودة الاستبداد المقنع إلى مصر، وتراجع احتمالات أي تحول ديمقراطي، وانسداد الأفق السياسي والعسكري أمام الثورة السورية، وتعثر المصالحة الوطنية في ليبيا، واتساع رقعة الحرب الأهلية في اليمن، نجد أنفسنا إزاء أسئلة مفصلية، لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها؛ هل حملت هذه الثورات بذور فشلها، لحظة اندلاعها مع متم عام 2010 وبداية عام 2011، أم أنه كان من الممكن أن تخط لها مساراً آخر مختلفاً، لولا تكالب الأنظمة والنخب المتنفذة والقوى الدولية والإقليمية عليها؟ وهل ساهمت العواملُ الداخلية في انحراف مساراتها، مثل تخلفُ البنيات الثقافية والاجتماعية، وعدمُ نضج النخب السياسية وعجزها عن صياغة تعاقدات اجتماعية، تنبني على التوافق الوطني، وتقاعسُ المثقفين عن الانخراط في أسئلة هذه الثورات، وعدمُ توفر القوى الثورية التي قادتها على برامج عمل واضحة ومتماسكة؟
بالطبع، تصعب المجازفة بالارتكان إلى سبب واحد لكل ما حدث، في ضوء الأوضاع الحالية بكل تعقيداتها، فالحديث عن وجود مؤامرة كبرى من دوائر صنع القرار الدولي، لا يكتسي وجاهته من دون ربطه بطبيعة البنيات الاجتماعية والثقافية المتخلفة، وعدم قدرتها على اجتراح مشروع وطني، قابل للحياة في عالم يتغير باستمرار على الأصعدة الاقتصادية والثقافية والعلمية كافة. وهو ما يعني عجز هذه البنيات عن التحول إلى مصدر قوة وفعالية، للدفع بالمرحلة الانتقالية، صوب آفاق تصبح معها منتجة للتعاقدات الوطنية الكبرى التي تضع المجتمع، بمختلف أطيافه ومكوناته، على عتبة الديمقراطية والتنمية. وهنا، لا بد من الإشارة إلى إخفاق مختلف التنظيمات السياسية العربية في تجاوز انتماءاتها الإيديولوجية والفكرية، وتوسيع أفقها السياسي، بما يمكنها من تدبير إكراهات هذه المرحلة التي تتطلب توافقات اجتماعية واسعة. ويجد هذا تفسيره، إلى حد كبير، في الثقافة السياسية العربية التي تعتاش على موارد فكرية وثقافية تقليدية، وغير منتجة، لما يمكن أن يساهم في توسيع هامش التعايش مع الخصوم، والقبول بالاختلاف وتغليب المصلحة الوطنية.
هنا، تبدو الحالة المصرية تعبيرا صارخا عن الدور الكبير الذي لعبته العوامل الداخلية السالفة الذكر، في الالتفاف على الثورة وإجهاضها. لا مبالغة، في هذا الصدد، في القول إن غياب الاجتهاد الفكري والسياسي عن أجندة حركة الإخوان المسلمين، وسوء تقديرها موازينَ القوى على الأرض، وعدم فهمها الثقافة السياسية للمؤسسة العسكرية المصرية، واستهانتها بالقوى الثورية، أفقد الثورة زخمها الأول، وأدخلها مرحلة استقطاب حاد، أنهاها انقلاب العسكر في 3 يوليو/ تموز 2013، ما فتح الباب أمام عودة ما يعرف بـ "الدولــة العميقة"، بكل نفوذها الاقتصادي والسياسي والإعلامي، وبالتالي الالتفاف على كل المكاسب التي حققتها الثورة المصرية في أيامها الأولى.
لكن، في المقابل، لا يمكن إغفال تأثير عوامل أخرى لا تقل أهمية، وأبرزها حالة التخوف الكبير التي خلفتها هذه الثورة المصرية لدى دوائر صنع القرار الأميركي، وإسرائيل، وأصحاب المصالح الاقتصادية الدولية الكبرى، والقوى المحافظة في المنطقة، بالنظر لما تمثله مصر من ثقل ثقافي واستراتيجي، يمكن أن يتحول إلى رافد للحركات الاحتجاجية العربية الأخرى. وتظل الثورة السورية، في هذا السياق، أكبر ضحية لصراع المصالح وقدرة الكبار على التحكم في الحدث السوري، وتوجيهه نحو آفاق مأسوية غير مسبوقة. فمع عسكرة هذه الأزمة في صيف 2011، وتعددِ الفاعلين المتدخلين في الأزمة (النظام، المعارضة السورية بكل أطيافها، إيران، حزب الله، روسيا، الصين، الجماعات الجهادية المسلحة...)، وفشلِ مختلف مساعي التسوية العربية والأممية، وضعف المعارضة السورية وتخبطها، وتزايد أعداد اللاجئين السوريين، بات واضحا أن هناك ما يشبه إجماعا إقليميا ودوليا ضمنيا على إطالة أمد الأزمة، وسد الطريق أمام أي حل سياسي ينقذ الشعب السوري.
في السياق نفسه، يشكل الزج بتنظيمات جهادية وطائفية في معادلة المنطقة، جزءاً من استراتيجية تتغيا خلط الأوراق، وإشاعة حالة من الفوضى، تفتح الباب أمام صراع المصالح والنفوذ بين القوى الدولية والإقليمية المعنية. فعلى الرغم من اختلاف الخلفية المذهبية لتنظيم "داعش" في العراق وسورية والحوثيين في اليمن، فإن التنظيمين يبدو كأنهما يلعبان الدور نفسه، بالنسبة لتعطيل أي حل، يمكن أن يضع حدا للاحتراب الطائفي والأهلي في المنطقة. فقد جاء ظهورُ داعش واحتلالُه مناطق واسعة من العراق وسورية، وإعلانُه الخلافةَ، ليربك القوى الوطنية والثورية وينبئ باصطفافات جديدة، تتشكل على حساب معاناة الشعوب وتطلعها للحرية والكرامة والاستقرار، فقد تأسس هذا التنظيم في لحظة حاسمة ومفصلية من مسار الربيع العربي. ففي سورية، كانت فصائل المعارضة المسلحة قد بدأت ترسخ شرعيتها وتحقق انتصارات ميدانية لافتة في عدد من المناطق. وفي العراق، كانت المظاهرات الشعبية قد قطعت أشواطاً مهمة على درب إرغام حكومة نوري المالكي على الخضوع لمطالبها.
قد ينطبق الشيء نفسه على الحوثيين في اليمن، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف السياق، فلم تكن سيطرتهم على صنعاء في سبتمبر/ أيلول المنصرم، إلا بعد أن لاحت في الأفق بوادر نجاح العملية الانتقالية، فكان تحركهم بمثابة رسالة إيرانية واضحة، مفادها أن أي معادلة سياسية في اليمن لا يمكن أن تكون على حساب النفوذ الإقليمي لإيران، وأنه لا يمكن فصل ما يحدث في العراق وسورية عما يحدث في اليمن. ما يعني تحول الأزمة اليمنية إلى أزمة إقليمية ودولية، تملك فيها القوى الكبرى مفاتيح وقف الحرب، والتدخل لفرض حل سياسي، تقبل به الأطراف المتصارعة، ضمن تسوية قد تطال ملفات أخرى في المنطقة.
يبدو أننا نعيش موسم الانتقام من ثوراتٍ حملت أحلام شعوب بغد أفضل، يقطع مع الاستبداد والظلم والفساد، واحتكار السلطة والثروة. فتفكيك النسيج الوطني والاجتماعي بهذه الطريقة، وتقويض مؤسسات الدولة، والإطالة الممنهجة للحروب الأهلية، ذلك كله لا يمكن إلا أن يعبر عن تخوف الدوائر الدولية والإقليمية من متغيرات جوهرية، قد تعيد النظر في لعبة المصالح في المنطقة.