الاتفاق النووي مع إيران.. الحقائق والتداعيات
بعد سلسلة طويلة من المفاوضات المضنية التي عقدتها مجموعة 5+1 (الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الدولي، وألمانيا)، وبعد عمليات تأجيل للموعد النهائي، لعدم التوصل إلى اتفاق ملزم لإيران، لتنفيذ ما يشار له، دائماً، أنه نزع، وإنهاء لاحتمالات تحول البرنامج النووي الإيراني إلى برنامج تسليحي، يهدف إلى الحصول على السلاح النووي، لتوظيفه لتحقيق أهدافها وغايتها الوطنية، والتي يمكننا التعبير عنها، ببساطة، بأنها الحصول على الهيمنة في إقليمها، وبأن تعتبر الدولة رقم (1) فيها.
ليس في هذه الغاية الوطنية الإيرانية ما هو مخفي، ذلك أن الحكومة الإيرانية في خطابها الرسمي، وفي الوثائق الرسمية، تبين أن غايتها هي السعي إلى أن تكون إيران الدولة الأولى على مستوى الشرق الأوسط في قدراتها، وهو خطاب يشير، بكل وضوح، إلى سعي دؤوب إلى الهيمنة. من هنا، يمكننا فهم الدور الذي خططت له إيران، في إنشاء برنامجها النووي ودفعه قدماً، بعد أن دمر العراقيون إبان الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988) المرتكز الأقوى في البنية التحتية الإيرانية، مفاعل بوشهر الذي صممته ونفذته ألمانيا الغربية في حينه، ثم تولت روسيا الاتحادية عملية تأهيله وتحديثه بعد احتلال العراق 2003.
ماذا يعني الاتفاق؟
بعد مفاوضات مضنية، قيل إنها الأطول في تاريخ الدبلوماسية المعاصرة، بعد مفاوضات مؤتمر باريس، عقب الحرب العالمية الأولى، توصل المفاوضان إلى إطار عام، لما ينبغي أن يشتمل عليه البيان النهائي الذي يمثل الاتفاق الذي سيتم بموجبه حل المشكل النووي بين إيران من جهة، والغرب ممثلاً في مفاوضيه الذين يمثلون الأعضاء الدائمين وألمانيا من جهة أخرى. لا يفوتني، هنا، بيان أن الدور الأكبر في هذه المفاوضات وقع على عاتقي وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، والمفاوض المحنك وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف.
هنالك من يقول إن ثقل العقوبات عليها هو الذي دفع إيران إلى التنازل وتوقيع الاتفاق، وفي هذا القول نصيب كبير من الصحة، حيث يرينا الجدول المرفق تناقص الناتج المحلي الإجمالي لإيران منذ عام 2011، وقد بلغ قمة نموه حتى عام 2014. لكن، من الجانب المقابل، وظف المفاوض الإيراني كل صفات الشخصية الفارسية في التعامل والتفاوض، وكذلك كل الإبهام المتعلق بخطوط آلية اتخاذ القرار المتوازية التي يشتهر بها نظام الحكم الإيراني، تحت قيادة مؤسسة ولاية الفقيه، فحقاً لا يعرف المرء من الذي سيقول نعم في النهاية، وعبر أيٍ من خطوط الارتباط المتوازية الممثلة في فريق التفاوض النووي، فهل هو محمد جواد ظريف، أم عباس عرقجي، أم فريدون روحاني، أم شخصية مجهولة لا نعرفها. يدلل على ذلك عدد من يفتح خطوط الهاتف المحمول على جهات مجهولة في طهران من بين أعضاء الوفد الإيراني، في أثناء رفع الجلسات لأداء الصلاة، كما يقول مراقبون للمفاوضات.
من المعلوم أن هدف كيري الأول جائزة نوبل للسلام، وهدف أوباما إنهاء رئاسته بنصر معنوي، هو إيقاف البرنامج النووي الإيراني، لكن هدف صاحب القرار الحقيقي المجهول في طهران هو استمرار البرنامج النووي تحت أي ظروف. لنراقب هذه المرحلة الطويلة التي قطعها المفاوض الإيراني، وكيف بدأت. كم كان عدد أجهزة الطرد المركزي، مثلاً، عند بداية المفاوضات، وكم عددها الآن. كم هي المرات التي أزال فيها الإيرانيون أختام الكاميرات الرقابية التي وضعتها اللجنة الدولية للطاقة الذرية؟ كل هذه تساؤلات تقودنا إلى استنتاج واضح، هو صعوبة، إن لم يكن استحالة، التوصل إلى شيء ملموس وملزم، عند تفاوضك مع الإيرانيين. في هذا المجال، نشرت صحيفة هيرالد تريبيون اللندنية في 3 فبراير/شباط 1981 مقالاً استعرض فيه كاتبه برقية من الدبلوماسي الأميركي الأقدم في السفارة الأميركية، بروس لاينغن، إلى وزير الخارجية الأميركي في حينه، سايروس فانس، مبيناً فيها خبرته من التفاوض المضني مع الإيرانيين بعد الثورة. ويدل سرد الدبلوماسي على ممارسات تشبه تفاوض الوفود الإيرانية، كالعناد والتلاعب بالألفاظ والتهرب من الالتزام في مفاوضاتها مع مجموعة 5+1 في نسخها المتعددة طوال فترة التفاوض الطويلة.
ما تسرب من معلومات عما تم الاتفاق عليه في الإطار من خطواتٍ، وصفت بأنها ملزمة، وموصوفة بدقة، لكي لا يتاح المجال لإيران للتلاعب والزوغان من الالتزام، تشير إلى ما يلي:
1. التخفيض بمقدار الثلثين لعدد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم الصالح لإنتاج السلاح النووي، من 19 ألف جهاز طرد مركزي إلى 6014 جهازا، على أن تستخدم إيران منها 5060 جهازاً لتخصيب اليورانيوم، وهو عدد ليس قليلاً.
2. شدد الاتفاق على أن تكون هذه الأجهزة من أجهزة الجيل الأول.
3. ينبغي أن لا تتجاوز نسبة التخصيب 3.67% على مدى الأعوام الخمسة عشر المقبلة. والسؤال، هنا: وماذا بعد هذه الأعوام؟ هل هي القنبلة؟ هل ستطلق يد إيران بالتخصيب كما تشاء؟ بافتراض بقاء نظام حكم ولاية الفقيه حاكماً في إيران.
4. تخفيض مخزون اليورانيوم المخصب من عشرة أطنان حالياً إلى 300 كيلوغرام فقط، مدة 15عاماً، فيما يبدو أنه لتشغيل مفاعل جامعة طهران البحثي.
5. وضع أجهزة الطرد المركزي الزائدة والبنية التحتية لتخصيب اليورانيوم التي تم منع استخدامها، في مخازن خاصة في عهدة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن لا يسمح باستخدامها إلا كبدائل لأجهزة مستخدمة عاطلة.
6. عدم بناء إيران أية منشأة جديدة لغرض تخصيب اليورانيوم خلال الـ15 عاماً المقبلة.
7. إغلاق منشأة فوردو، وعدم السماح باستخدامها 15 عاماً، على أن يتم تحويلها إلى الأبحاث السلمية بعد ذلك.
8. السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم في منشأة ناتانز عشر سنوات، باستخدام الجيل الأول من أجهزة الطرد المركزي البالغ عددها 5060 جهازاً.
9. سحب 1000 جهاز طرد مركزي من الجيل الثاني من منشأة ناتانز، ووضعها في مخازن، بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفضلاً عن كل هذه التنازلات الظاهرة للعيان من التعهدات التي وافقت عليها إيران، بموجب إطار الاتفاق الذي نناقشه، أضافت مجموعة 5+1، أو المفاوض الأميركي تحديداً، مجموعة من وسائل الرقابة والتحقق، تعيد إلى الأذهان سلسلة لجان التفتيش والتحقق التي شكلتها الأمم المتحدة لتفكيك المشروع النووي العراقي، وبقية أسلحة الدمار الشامل الأخرى، بدءاً بالسويدي، رالف ايكيوس (1991-1998)، وانتهاءً بهانتس بليكس رئيس "إنموفيك". وكلنا يتذكر الإشكالات العديدة التي رافقت عمل اللجان، والكم الهائل من المعلومات المتحصل عليها، والأسلحة التي تم تدميرها، ومحاولات العراق المتعددة للإفلات والتحرر من حبل العقوبات من دون جدوى. عندما نقرأ الالتزامات الإيرانية تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، نجد أمراً شبيهاً من الإذعان المفترض، فهل ستعامل الوكالة إيران بالنمط نفسه الذي عومل به العراق؟ إن لم يكن كذلك، فنحن، هنا، أمام سياسة كيل بمكيالين، فقد دمرت الدولة العراقية على أساس شبهة امتلاك مشروع نووي تم تدميره بالكامل في عملية عاصفة الصحراء، وتولى العراق تدمير ما تبقى منه، أملاً في التخلص من سيف العقوبات. هنا، في الحالة الإيرانية، نحن إزاء برنامج متكامل، تسنده سلسلة من المفاعلات النووية المتكاملة والحديثة، وخطوط كبيرة من الطاردات المركزية التي أتاحت لإيران إمكانية تخصيب عشرة أطنان من اليورانيوم الصالح لتحويله إلى سلاح نووي.
سيشهد المراقبون بأعينهم مستقبلاً المهارة الإيرانية في المناورة والتملص، من دون أن يكون للمفاوضين الذين مثلوا المجتمع الدولي سلاح رادع، سوى إعادة فرض العقوبات التي سيعرقلها وجود صديقين لإيران، هما الاتحاد الروسي والصين، اللذين سيقومان بواجبهما في عرقلة إعادة فرض العقوبات.
نعتقد أن إيران بلغت شأواً بعيداً في حقل المعرفة والتقانة النوويتين، وهذا، بحد ذاته، إنجاز مهم يتراجع أمامه امتلاك رأس أو رأسين نوويين، لا يفعلان شيئاً سوى ابتزاز الجار العربي ولا غير. فلدى إسرائيل بحدود 300 رأس نووي بتقدير العلماء الأميركيين، ولدى باكستان، جارة إيران، عشرات من الرؤوس النووية. هنا، يتأكد لدينا أن الأساس هو المعرفة النووية وامتلاك التقانة النووية وتطويرها، وهو ما تم الاعتراف به لإيران، بموجب هذا الاتفاق.
كما أننا لم نشهد، في هذا الإطار، أية إشارة إلى وسائل الإيصال من صواريخ موجهة، وطائرات مجهزة، لتنفيذ الضربات النووية، الأمر الذي نرى فيه نقصاً بارزاً في اتفاق الإطار هذا.
صحيح أن الاتفاق قد ثلم السيادة الإيرانية، وأصاب الفخر القومي الذي يوليه الإيرانيون الكثير، فعملية تدمير مفاعل أراك، وتدمير محركه الحالي، وشحنه إلى خارج إيران ليس أمراً سهلاً. فضلاً عن إغلاق مفاعل فوردو، والالتزام بالتخصيب بأجهزة التخصيب للجيل الأول في مفاعل ناتانز، والتعهد بعدم بناء أي مفاعل جديد 15 عاماً، كل هذه محددات تثلم السيادة.
وهنا، يحسن استذكار دور العلماء النوويين العراقيين الذين أخذوا على عاتقهم، وحدهم، تطوير البرنامج النووي العراقي، وحققوا تقنية ممتازة للفصل، اعتماداً على أساسيات مشروع مانهاتن (1942)، وأنتجوا البلوتونيوم، ولو بكميات محدودة، لم يتح لهم الزمن تعظيمها لتورط القيادة العراقية في عملية الكويت الخائبة التي لم تجر على العراق، وعلى الأمة، إلا الخيبة والخسارة وتدخل الغرب في مقدراتنا، ثم تغوّل إيران.