07 نوفمبر 2024
يوسف القعيد.. المثقف ظهيراً للجنرال
كلماتٌ سيحفظها التاريخ ليوسف القعيد سنواتٍ، في الخانة السوداء للكاتب، حينما يداهِن الدبابة بالمراهم والكلمات، والسرنجات إن لزم الأمر. كلمات تؤكد أن المثقف حينما يخون، يستخدم كل أدواته التي حفظها من الكتب لخدمة السلطة. وتؤكد أن خيانة المثقف أشدّ خسّةً وتدبيراً من خيانة الفقيه والضابط، وحتى الجاسوس، لأن هؤلاء لا يضحكون على شعوبهم بأدواتٍ من تلاعب الألفاظ، لأننا نعدُّ الكاتب والمثقف من الناس والشعب، غير الفقيه الذي أخذ عطيّته من السلطان، وخان الدين من داخل الدين نفسه، بتأويلاتٍ بعيدة عن جوهر الدين، لأن المثقف يأخذ رضاه وشِعره ورواياته وقصصه، وحينما يتكلم عن الناس، ففي ظن الناس أنه معهم، ويتكلم من أجلهم، لأنه منهم، على الأقل روحياً ومزاجياً، وليس مع السلطة، أي سلطة، فما بالك إذا انحاز المثقف لسلطة جنرال اغتصب سلطةً من رئيس منتخب وشرعي، وأدار ما لا يقل عن تسع مذابح مروعة في حق الناس، فهل ينتظر المثقف، يوسف القعيد، أن يصدّقه الناس، حينما يتحدث عنها في أمرٍ ما؟
تعالوا نتأمل كلمات القعيد: (من مصلحة مصر تأجيل الانتخابات، إلى حين وصول الشعب المصري إلى درجة من الوعي والثقافة) و(الانتخابات في مصر سيئة السمعة بسبب الفقر والأميّة). فهل عطّل الفقرُ انتخاباتٍ في الهند، مثلاً، وهي دولة ديمقراطية على ما أظن؟ أما حكاية تأجيل الانتخابات إلى حين وصول الشعب إلى درجةٍ من الوعي والثقافة، فهل الشعب الذي اختار عبد الفتاح السيسي زعيما بنسبةٍ مهولة، كما قالوا، كان في مرحلة (الترامادول)، وأفاق الآن، والمطلوب تجديد ثقافته ووعيه، وأنا ممن سمعوا القعيد، وهو يقول بشحمه ولحمه: (التأييد الكاسح للسيسي جاء بناء عن رغبة شعبية وطموح)، فأين ذهبت تلك الرغبة، ولماذا تبدد ذلك الطموح الآن، خصوصاً وأن الرجل سيفتتح قناة السويس بعد أقل من شهرين؟
علاوة على أن لدى الشعب المصري، كما قال القعيد نفسه، خميرة سبعة آلاف سنة، خميرة في الجينات، فأين راحت فجأة، أليس القعيد نفسه الذي ألّف رواية عن (شكاوى الفلاح الفصيح)، فأين راحت خميرة ذلك الفلاح؟
أعرف أن للقعيد علاقة قديمة جدا بالمراهم والسرنجات، منذ كان مجنداً، قبل نصف قرن، في سلاح الخدمات الطبية، وهو سلاح مشهود له بالكفاءة في العلاج في أوقات الحروب. وبما أن الجيش المصري لم يدخل حرباً من 42 سنة، إلا على ليبيا الجار الطيب، مرة في فترة السادات وأخرى خاطفة في فترة السيسي تدشيناً أوّلياً للجنرال، وساعتها رقص المثقفون للضربة التي طاولت مدنيين، وكأننا خُضنا (حطين).
أعرف أن المثقف في أزمنة الرعب يحاول جاهداً أن يشارك الطاغية، ولو حتى بنصف تمرة، إلا أن القعيد أراد أن يشارك بمصيبة كاملة، لكي يكون الوطن كله تحت إمرة شخصٍ واحد، يسنّ له من قوانين، متى شاء وكيفما شاء، وأعرف أن صِنوه، جمال الغيطاني، على الخط نفسه. والاثنان معا من (البوابة الشرقية) حتى 30 يونيو. وأعرف أن الغيطاني بدأ مروّجا عائلة السيسي، قبل أن يبدأ الأخير الحكم، وقال: (مقهى السيسي وردت في أحاديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ)، وكأن ورود اسم (مقهى السيسي) في رواية لمحفوظ يبرر زعامته. إذن، علينا أن نعيّن (صاحب مقهى قشتمر) الذي كتب نجيب محفوظ نفسه في مقهاه رواية كاملة رئيسا لمصر والسودان.
أعرف أن الغيطاني، بعد وقوفه إلى جانب الجنرال، حصل على جائزة النيل، وقيمتها 400 ألف جنيه من أموال البسطاء ناقصي الوعي والثقافة الذين لا يحق لهم، الآن، أن يكون لهم برلمان، ولا أن يطالبوا الحكومة والجنرال به، بل عليهم أن يتزودوا بالوعي والثقافة سنوات طويلة، حتى يرضى عنهم الجنرال، ويغمز لهم بعينه قائلا لهم: (تعالوا خلاص أنتم تثقفتم، وأصبحتم حلوين).
أعرف أن مكان جائزة النيل محجوز أيضا للقعيد، ولذا تذكّر الرجل مراهمه وسرنجاته سريعاً، كي يحجز مكانه في ذاكرة الجنرال. طيب، ما ذنب ذلك الفلاح الفصيح الذي نسيه في كتابه، بعدما سبّ وعيه وثقافته. فهل سوف يخصم القعيد هذه الرواية من مجمل رواياته حينما ترشحه الجامعات لنيل جائزة النيل؟