02 نوفمبر 2024
البطالة.. شاغل التونسيين قبل الثورة وبعدها
تُعدّ البطالة الشّغل الشّاغل لمعظم التونسيّين قبل الثّورة وبعدها، إذ يقدّر عدد العاطلين عن العمل بحوالى 700 ألف شخص، منهم حوالى 200 ألف من خرّيجي الجامعات، وتقدّر نسبة البطالة سنة 2015 بـ 15 % من مجموع السكّان المؤهّلين للعمل، وترتفع النسبة إلى ما بين 30 % و40 % في محافظات داخليّة. وتُعدّ فئة الشّباب الأكثر عرضة للبطالة، فقد ورد، في أحدث مسح ميدانيّ حول التّشغيل، صادر عن المعهد الوطني للإحصاء، أنّ حوالى 70 % من مجموع العاطلين عن العمل من فئة عمريّة لا تتجاوز 30 سنة.
والبطالة من الأسباب الرّئيسيّة التي أدّت إلى اندلاع الثورة سابقاً، وإلى اشتعال فتيل الاحتجاجات أخيراً، فقد تغلّقت أبواب التّشغيل أمام الشباب، وعمّت المحسوبيّة واستشرى الفساد الإداري والمالي، وحيل بين أصحاب الكفاءة وفرص الانتداب، ما جعل الإحساس بالظّلم والشّعور بالسّخط يعتري كثيرين ممّن طالت بطالتهم، فانصرف بعضهم إلى الاعتصام أو التظاهر، وعمد آخرون إلى ركوب قوارب الموت، بحثاً عن شغل يضمن الكرامة، وضاقت الأرض بغيرهم، فسلكوا مسالك الجريمة المنظّمة، أو انخرطوا ضمن شبكات الإرهاب الدوليّة، بل وانسدّ الأفق أمام آخرين، فرأوا في الانتحار سبيلاً للاحتجاج اليائس على سلطة لا تبالي بحقّ المواطن في العمل القارّ. وصرخ النّاس يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، وبعده، "التّشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق". وفي ذلك إشارة إلى أنّ فئة قليلة من المتنفّذين تُهدر المال العامّ وتسرق كدّ النّاس وتعبهم، لضمان مصلحتها ورفاهيّتها، ولا تبالي، في المقابل، بحقّ النّاس في الشّغل والعيش الكريم.
وأمل التونسيّون إبّان الثورة في أن يكون التّشغيل أولويّة وطنيّة لدى جميع الأطراف المدنيّة والحكوميّة، وتوقّعوا أن يقدّم أصحاب القرار استراتيجيّة واضحة المعالم، لفكّ معضلة البطالة والتّمكين للشّباب في الحياة المهنيّة، وعلى الرغم من وعود أعلنتها الدّولة بتشغيل آلاف العاطلين، فإنّ المعطيات المتداولة تُخْبِرُ بتراجع سوق الشّغل بعد الثورة. ويشكو الباحثون عن العمل من قلّة ذات اليد، وعدم قدرتهم على تسديد مصاريف التنقّل، ونفقات معيشتهم اليوميّة، خصوصاً أنّهم أصبحوا عبئاً يرهق كاهل الأسرة لبطالتهم، واكتفائهم بدور الاستهلاك إبّان مرحلة التعلّم والدّراسة، التي امتدّت سنوات. وفي هذا السياق، يقول سليم دبّابي (القيروان) إنّه تخرّج من كلّية الآداب (لغة وآداب عربيّة) سنة 2005، وعانى الأمرّين بحثا عن عمل قارّ من دون جدوى، ووجد نفسه مجبراً على العمل بصفة عرضيّة في مجالات مهنيّة موسميّة، بعيدة عن اختصاصه. ويقول وليد الباجي (سيدي بوزيد) إنّ حصوله على شهادة في التنشيط السّياحي سنة 2009 لم ينفعه كثيراً، ففرص العمل في القطاع السّياحي نادرة وموسميّة. أمّا عبد الكريم اللّومي (القصرين) فبعد حصوله على الإجازة في الرياضيّات، اضطرّ إلى العمل في قطاع الفلاحة مع والده، لأنّه لم يتحمّل مصاريف الإيجار والتنقّل في مدن السّاحل أو الشّمال.
والظاهر أنّ عدم التنسيق بين وزارتي التّعليم العالي والتّشغيل في مستوى إحداث شعب تستجيب لحاجيات سوق الشّغل، أدّى إلى تزايد عدد العاطلين عن العمل. وتعمّقت المشكلة إبّان إغلاق مصانع عديدة أبوابها، وتعليق شركات أجنبيّة مشاريعها الاقتصاديّة والاستثماريّة في تونس بسبب تدهور الوضع الأمني، وانتشار فوضى الاحتجاجات وحمّى الاعتصامات، المبرّرة وغير المبرّرة، ما أنتج عطالة في مؤسّساتٍ عمدت إلى تسريح آلاف العمّال. وتزامن ذلك مع اندلاع المواجهات في ليبيا، مما شكّل ضغطاً إضافيّا على سوق التّشغيل في تونس، حيث سُجّلت عودة ما بين 30 و35 ألف تونسيّ كانوا يعملون هناك. كما أنّ التّفويت في القطاع العامّ، وتغليب الخصخصة، ساهما في تسريح عمّال كثيرين، وتقليص فرص التّشغيل.
وبذلك، البطالة معضلة حقيقيّة، تنخر البناء الاجتماعي والاقتصادي في تونس، أسهمت في إنتاجها ظروف محلّية ومعطيات إقليميّة وخيارات اقتصاديّة غير موفّقة، يتعيّن الاشتغال عليها بالنّقد والمراجعة. فمن المهمّ بمكان بلورة استراتجيّة وطنيّة، تشارك فيها كلّ الأطراف المعنيّة بالتّشغيل من مستثمرين وأصحاب رؤوس أموال وجمعيّات وأحزاب، وباعثين شبّان ومشرفين على القطاعين، التّربوي والجامعي، وممثّلين عن الوزارات المعنية قصد تشخيص أزمة البطالة، والبحث في أسبابها وسبل تجاوزها، فالحاجة أكيدة، اليوم، لدعم جهود المبادرة الفرديّة، وتأمين المرافقة النّشيطة لطالبي الشغل، بضمان حسن التّأهيل والإرشاد، فضلاً عن ضرورة تمثّل الفضاء الاقتصادي والمجال التّجاري الإقليمي والعالمي لمعرفة حاجيات سوق الشّغل، وتغيير المنظومة التّعليميّة على نحوٍ يجعلها تستجيب لإحداثيّات الظّرف التّشغيلي في تونس وخارجها. كما أنّ تشجيع الشّباب على إحياء المناطق الريفيّة وتوطينهم فيها، وتوجيههم نحو الاستثمار في المجال الفلاحي يسهم في النّهوض بمناطق الدّاخل، وفي الحدّ من نسبة البطالة. كما يُفترض العمل مستقبلاً على تفادي إفلاس الشّركات المشغّلة أو المستثمرة، وتقديم المساعدة للمؤسّسات المتضرّرة، وإعادة جدولة ديونها لتساهم في الجهد التّشغيلي. ويبقى تشجيع العقل الابتكاري في مجال البحث العلمي والاقتصادي أمراً مهمّا، وخياراً استراتيجيّا لإنتاج مجتمع المعرفة، وإحداث صناعات جديدة ومواطن شغل جاذبة وحادثة، من قبيل تشجيع مشاريع الذّكاء الاصطناعي وتطوير التجارة الإلكترونية والاقتصاد الخدماتي، وغير ذلك من المهن الجديدة، التي يمكن أن تستقطب الوافدين على سوق الشّغل، وتؤسّس لدولة تستثمر كفاءاتها ولا تعطّل عقولها المبدعة، بل توظّفها لصناعة غد اقتصادي أفضل.
والبطالة من الأسباب الرّئيسيّة التي أدّت إلى اندلاع الثورة سابقاً، وإلى اشتعال فتيل الاحتجاجات أخيراً، فقد تغلّقت أبواب التّشغيل أمام الشباب، وعمّت المحسوبيّة واستشرى الفساد الإداري والمالي، وحيل بين أصحاب الكفاءة وفرص الانتداب، ما جعل الإحساس بالظّلم والشّعور بالسّخط يعتري كثيرين ممّن طالت بطالتهم، فانصرف بعضهم إلى الاعتصام أو التظاهر، وعمد آخرون إلى ركوب قوارب الموت، بحثاً عن شغل يضمن الكرامة، وضاقت الأرض بغيرهم، فسلكوا مسالك الجريمة المنظّمة، أو انخرطوا ضمن شبكات الإرهاب الدوليّة، بل وانسدّ الأفق أمام آخرين، فرأوا في الانتحار سبيلاً للاحتجاج اليائس على سلطة لا تبالي بحقّ المواطن في العمل القارّ. وصرخ النّاس يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، وبعده، "التّشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق". وفي ذلك إشارة إلى أنّ فئة قليلة من المتنفّذين تُهدر المال العامّ وتسرق كدّ النّاس وتعبهم، لضمان مصلحتها ورفاهيّتها، ولا تبالي، في المقابل، بحقّ النّاس في الشّغل والعيش الكريم.
وأمل التونسيّون إبّان الثورة في أن يكون التّشغيل أولويّة وطنيّة لدى جميع الأطراف المدنيّة والحكوميّة، وتوقّعوا أن يقدّم أصحاب القرار استراتيجيّة واضحة المعالم، لفكّ معضلة البطالة والتّمكين للشّباب في الحياة المهنيّة، وعلى الرغم من وعود أعلنتها الدّولة بتشغيل آلاف العاطلين، فإنّ المعطيات المتداولة تُخْبِرُ بتراجع سوق الشّغل بعد الثورة. ويشكو الباحثون عن العمل من قلّة ذات اليد، وعدم قدرتهم على تسديد مصاريف التنقّل، ونفقات معيشتهم اليوميّة، خصوصاً أنّهم أصبحوا عبئاً يرهق كاهل الأسرة لبطالتهم، واكتفائهم بدور الاستهلاك إبّان مرحلة التعلّم والدّراسة، التي امتدّت سنوات. وفي هذا السياق، يقول سليم دبّابي (القيروان) إنّه تخرّج من كلّية الآداب (لغة وآداب عربيّة) سنة 2005، وعانى الأمرّين بحثا عن عمل قارّ من دون جدوى، ووجد نفسه مجبراً على العمل بصفة عرضيّة في مجالات مهنيّة موسميّة، بعيدة عن اختصاصه. ويقول وليد الباجي (سيدي بوزيد) إنّ حصوله على شهادة في التنشيط السّياحي سنة 2009 لم ينفعه كثيراً، ففرص العمل في القطاع السّياحي نادرة وموسميّة. أمّا عبد الكريم اللّومي (القصرين) فبعد حصوله على الإجازة في الرياضيّات، اضطرّ إلى العمل في قطاع الفلاحة مع والده، لأنّه لم يتحمّل مصاريف الإيجار والتنقّل في مدن السّاحل أو الشّمال.
والظاهر أنّ عدم التنسيق بين وزارتي التّعليم العالي والتّشغيل في مستوى إحداث شعب تستجيب لحاجيات سوق الشّغل، أدّى إلى تزايد عدد العاطلين عن العمل. وتعمّقت المشكلة إبّان إغلاق مصانع عديدة أبوابها، وتعليق شركات أجنبيّة مشاريعها الاقتصاديّة والاستثماريّة في تونس بسبب تدهور الوضع الأمني، وانتشار فوضى الاحتجاجات وحمّى الاعتصامات، المبرّرة وغير المبرّرة، ما أنتج عطالة في مؤسّساتٍ عمدت إلى تسريح آلاف العمّال. وتزامن ذلك مع اندلاع المواجهات في ليبيا، مما شكّل ضغطاً إضافيّا على سوق التّشغيل في تونس، حيث سُجّلت عودة ما بين 30 و35 ألف تونسيّ كانوا يعملون هناك. كما أنّ التّفويت في القطاع العامّ، وتغليب الخصخصة، ساهما في تسريح عمّال كثيرين، وتقليص فرص التّشغيل.
وبذلك، البطالة معضلة حقيقيّة، تنخر البناء الاجتماعي والاقتصادي في تونس، أسهمت في إنتاجها ظروف محلّية ومعطيات إقليميّة وخيارات اقتصاديّة غير موفّقة، يتعيّن الاشتغال عليها بالنّقد والمراجعة. فمن المهمّ بمكان بلورة استراتجيّة وطنيّة، تشارك فيها كلّ الأطراف المعنيّة بالتّشغيل من مستثمرين وأصحاب رؤوس أموال وجمعيّات وأحزاب، وباعثين شبّان ومشرفين على القطاعين، التّربوي والجامعي، وممثّلين عن الوزارات المعنية قصد تشخيص أزمة البطالة، والبحث في أسبابها وسبل تجاوزها، فالحاجة أكيدة، اليوم، لدعم جهود المبادرة الفرديّة، وتأمين المرافقة النّشيطة لطالبي الشغل، بضمان حسن التّأهيل والإرشاد، فضلاً عن ضرورة تمثّل الفضاء الاقتصادي والمجال التّجاري الإقليمي والعالمي لمعرفة حاجيات سوق الشّغل، وتغيير المنظومة التّعليميّة على نحوٍ يجعلها تستجيب لإحداثيّات الظّرف التّشغيلي في تونس وخارجها. كما أنّ تشجيع الشّباب على إحياء المناطق الريفيّة وتوطينهم فيها، وتوجيههم نحو الاستثمار في المجال الفلاحي يسهم في النّهوض بمناطق الدّاخل، وفي الحدّ من نسبة البطالة. كما يُفترض العمل مستقبلاً على تفادي إفلاس الشّركات المشغّلة أو المستثمرة، وتقديم المساعدة للمؤسّسات المتضرّرة، وإعادة جدولة ديونها لتساهم في الجهد التّشغيلي. ويبقى تشجيع العقل الابتكاري في مجال البحث العلمي والاقتصادي أمراً مهمّا، وخياراً استراتيجيّا لإنتاج مجتمع المعرفة، وإحداث صناعات جديدة ومواطن شغل جاذبة وحادثة، من قبيل تشجيع مشاريع الذّكاء الاصطناعي وتطوير التجارة الإلكترونية والاقتصاد الخدماتي، وغير ذلك من المهن الجديدة، التي يمكن أن تستقطب الوافدين على سوق الشّغل، وتؤسّس لدولة تستثمر كفاءاتها ولا تعطّل عقولها المبدعة، بل توظّفها لصناعة غد اقتصادي أفضل.