02 ديسمبر 2016
"فيمن" وأزمة الإسلاميين في أوروبا
بينما كان المفكر الإسلامي طارق رمضان يتحدث، في منتصف مايو/ أيار الماضي، في محاضرة له في ملتقى ينظمه اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، فوجئ الحضور بهجوم أربع ناشطات من حركة فيمن على رمضان، وهن يرددن "الله ليس رجلا سياسيا". علق رمضان، وهو يخرج من الملتقى مصحوباً بالأمن، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة، إن ما جرى ليس حادثاً. وقالت "فيمن" في بيان، إنها "ترفض حضور دعاة أصوليين إلى تجمعاتٍ بهدف تسييس المسلمين في فرنسا، برعاية الإخوان المسلمين". وواقع الأمر أنه على الرغم من أن طارق رمضان حفيد لحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، وعلى علاقة قديمة، وإن كانت متوترة، باتحاد المنظمات الإسلامية، وهي واجهة الجماعة في فرنسا، إلا أنه ليس من اليسير نسبة رمضان لـ"لإخوان" فكرياً أو تنظيميا. هذا الارتباك والخوف من كل حضور إسلامي في الغرب، ونسبته للإخوان، مرتبط بعدة أمور، منها ما يجري داخل هذه الجماعة بشكل خاص، وداخل أوساط المسلمين في الغرب بشكل عام. فحركة الإخوان المسلمين، في سعيها منذ عقود، إلى شغل موقع القيادة والحديث باسم المسلمين في الغرب، عملت علي التأكيد على الهوية الإسلامية موحدةً صفوف الأقليات المسلمة في البلدان الغربية خلفها عند كل منعطفٍ يمسّ هذه الأقليات، إلا أن عملية الصعود إلى الواجهة هذه بما تتطلبه من ملاءمة فكرية وسياسية للسياق الغربي، تتم في ظل ضغوطٍ من أطراف مختلفة ومتناقضة، بما يؤدي إلى نوع من الارتباك والتشظي في خطاب الحركة.
كانت القيادات الإسلامية الحركية المهاجرة إلى الغرب، في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، شأن أغلب المسلمين المهاجرين للغرب بالذات في أوروبا، تنظر إلى هذه الهجرة باعتبارها مرحلةً مؤقتة. لذلك، كانت أعينهم مصوبةً على ما يجري في بلدانهم الأصلية، إلا أنه مع اتجاه الدول الأوروبية إلى تقييد الهجرة، سنت تشريعات لجمع شتات أسر العمال المهاجرين، وهو ما ساهم، مع عدة تطورات أخرى، في حسم قرار الغالبية العظمى من هؤلاء
اعتبار إقامتهم في الغرب دائمة، وكرس ذلك نشوء أجيال جديدة من أبناء المهاجرين، ولدوا في الغرب، وأصبحوا مواطنين في الدول الغربية. منذ الثمانينيات، انعكس هذا التحول على خطاب الحركة الإسلامية عن الوجود الإسلامي في الغرب، وساهم في بلورة ذلك نظرياً كتاب أصدره الشيخ يوسف القرضاوي عام 1990 "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة". يقول لورينزو فيدينو، مؤلف "الإخوان المسلمون الجدد في الغرب"، عنه "سرعان ما تلقفته منظمات الإخوان الغربيين، ونشرته على نطاق واسع بلغات مختلفة. يمكن عد هذا البحث بمنزلة المانفيستو لحركة الصحوة الإسلامية". بعد أن يحدّد القرضاوي في كتابه هدف الحركة في "تحرير الأرض الإسلامية من كل سيطرة غير إسلامية، وإعادة الخلافة الإسلامية الواجبة شرعاً إلى القيادة من جديد" ودراسته أوضاع الحركة في العالم الإسلامي، يولي للحركة الإسلامية في بلاد الغربة اهتماماً خاصاً، ويشير إلى هذا التحول الذي حدث لها، وللمسلمين عموماً، باتجاه الاستقرار الدائم في بلاد الهجرة، والفرصة المتاحة لها، بل ما يدعوه "ضرورة الوجود الإسلامي في الغرب" لتبليغ رسالة الإسلام، والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية". وفي حديثة عن الأقليات المسلمة المتناثرة في العالم، يشرح أن مهمة الحركة الإسلامية هي أن تتبوأ مكان القيادة لهذه الأقليات. وهي المهمة التي كانت طلائع الطلبة المنتمين للحركة في الغرب مهّدت لها من دون وجهة واضحة. ولكن، بدأت بعد ذلك عملية إعادة ترتيب واسعة للجهود الإسلامية في الغرب، تقودها الحركات الإسلامية المنتمية للإخوان، بما تملكه من خبرة تنظيمية عالية، ومصادر تمويل تمخضت عنها لاحقاً شبكة مالية شديدة التعقيد. وفي 1989 تأسّس "اتحاد المنظات الإسلامية في أوروبا"، أكبر منظمات الإخوان الغربيين في أوروبا، وضم اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، والجمعية الإسلامية في ألمانيا، وغيرها من منظمات الإخوان المتفرقة في أوروبا. وانبثقت عن الاتحاد عدة جمعيات ومؤسسات، من أهمها المجلس الأوروبي للإفتاء، والذي يهدف إلى أن يكون مرجعا للمسلمين الغربيين في شوون دينهم، وتضم عضويته مجموعةً من قيادات "الإخوان" ومشايخهم في العالم الإسلامي والغرب.
كان لدى الحكومات الغربية اهتمام بالبحث عن ممثلين للمسلمين، وعن "شركاء معتدلين"، ووجدت تنظيمات "الإخوان" أكثر استعدادا للقيام بالدور، بل بادرت هذه التنظيمات عملياً إلى تقديم نفسها واجهة للأقليات المسلمة. مجمل من ينتمون لكل المجموعات الإسلامية في الدول الأوروبية يترواح في حدود 10% من أعداد المسلمين، فاتجاه التدين لدى الجيلين، الثاني والثالث، من المهاجرين يميل إلى مزيد من الفردنة، بعيداً عن الهياكل التنظيمية، لكن هذا التوجه إلى استقلال التدين لم يتعارض مع أن التأكيد على الهوية الإسلامية غدا جذّاباً للشباب المسلم في الغرب، في ظل شعورهم بعدم تقبل المجتمعات الغربية لهم. وقد برع "الإخوان" في أن يتقدموا الصفوف في القضايا التي تلوح كأنها علامات على أن المسلمين تحت الحصار، وتفرزهم بشكل واضح عن الآخر غير المسلم، وتربطهم بمخيلة الأمة العابرة للحدود. وكما يشير فيدينو "منذ 1988، وقت بروز رواية سلمان رشدي (آيات شيطانية)، حتى الرسوم الكرتونية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى الجدل حول الحجاب"، حشد الإخوان للاحتجاج بنجاح، واستطاعوا تصوير ما يجري جزءاً من عدواة "الغرب" ضد الإسلام والمسلمين.
إلا أن هذا الصراع المتمحور حول الهوية للأقلية المسلمة يتقاطع، كما ينبه أنطونيو نيغري، مع صراعات المطالبة بالحقوق والعدالة بمفردات الحقوق المدنية، سواء على صعيد "الحفاظ على
العمل الإيجابي للنساء والملونين في الولايات المتحدة، أو لحقوق المسلمين في فرنسا، أو للسكان الأصليين في كندا وأستراليا". ويتقاطع مع الاحتجاجات الضخمة ضد الحرب في العام 2003، والتي شارك فيها الإسلاميون، جنباً إلى جنب، مع المنظمات المدنية المعارضة للحرب. ومثل هذه التحالفات والتنظير المصاحب لها إسلاميا، مضافاً إليها الإدراك الذي يطوره الناشطون الإسلاميون الذين "يعملون في شوارع ليون أو بروكسل أو شيكاغو في الألفية الثالثة" تجاه محدودية الفائدة من الحديث عن دولة إسلاميةٍ، أو العقوبات التي تخص المرتد، وغير ذلك من التنظير التقليدي لفكر الإخوان المسلمين، في ظل عيشهم في ديمقراطيات غربية علمانية، وسعيهم إلى لعب دور الوسيط مع السلطات، تُحدث ارتباكاً في أوساط "الإخوان" الغربيين تجاه تنظير القيادات الفكرية الرئيسة لهم، كالقرضاوي وفيصل مولوي وراشد الغنوشي، وأيضاً نوعاً من الجدل مع رموز الطرح الإصلاحي، كطارق رمضان وأوبرو وغيرهما. فعلى سبيل المثال، واجه طارق رمضان حالةً من الرفض من بعض مؤيديه السابقين، منذ عينه رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، مستشارا للحكومة في العام 2005، كما يشير باتريك هاني وسمير آمغار. وحتى على مستوى مؤسسة فقهية تتبع "الإخوان"، كالمجلس الأوروبي للإفتاء، نلاحظ هذا الارتباك بين التقيد بنصوص الشريعة، وفق تفسيرات بعض أعضائه من العالم العربي، كالقرضاوي ومولوي، في قضايا كالزواج والطلاق والتمويل، وبين التقيد بالقوانين الأوروبية.
هذا من جهة محاولة التوفيق أو الارتباك بين التنظير التقليدي للإخوان والتكيف مع الواقع العلماني في الغرب، وما تحدثه أطروحات الإصلاحيين لتطوير هذا التوفيق من جدل. ومن جهةٍ أخرى، يواجه "الإخوان" في الغرب، في سعيهم إلى التكيف مع الواقع العلماني، مزايدة سلفية آخذة بالاتساع. وفي أحيانٍ كثيرة، تأتي هذه الانتقادات من مكانٍ ليس بعيداً عن الدار، فعندما كتب فيصل مولوي كتابه "المسلم مواطناً في أوروبا"، بعث نسخة منه للمراجعة إلى عدنان النحوي، وهو أحد القيادات الإخوانية المحافظة، فكتب النحوي كتاباً يرد عليه فيه، ووصفه بأنه كتاب ينحو "إلى تغريب المسلم اليوم، وتحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعاتٍ غربية الفكر والمنحى". وعندما انتقد القرضاوي سيد قطب في كتاب الأولويات على توجهه التكفيري، ثم كرّر ذلك في "إسلام أون لاين" في العام 2009، واجه دفاعا شرسا من القيادات التقليدية للإخوان العرب، مثل محمود عزت ومحمد مرسي ومحمد بديع.
يقول طارق أوبرو، أحد أهم الشخصيات الإصلاحية المؤثرة في اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، في حوار ساسوبر وبريفو معه، تعليقاً على الجدل المثار حول تذكيره بالفوارق البيولوجية بين الجنسين، في حواره مع ليلى بابيس "ينبغي ألا ننسى أن خلفي جمهور من المؤمنين.. لم يكن من السهل فعلا أن أتحدث، في الوقت نفسه، بلغاتٍ متعددةٍ، وأتوجه إلى جماهير متباينة. كانت النتيجة أنني كنت محافظاً جداً في أعين بعضهم: كما لو أنه يتعين على رجل الدين أن يقول آمين لكل جديد. وفي أعين آخرين، لم أكن مسلماً بما فيه الكفاية، وأني قد انهزمت، لا بل إنني خنت الإسلام"، ولأن شخصياتٍ من نوع أوبرو، تحاول أن تخلق خطاباً تراعي فيه جماهير متباينة، فتخلق ارتباكا لكل هذه الجماهير. ولعوامل أخرى كالمتعلقة باليمين الأوروبي وأزمة الدولة الحديثة بالطبع، لم يكن أمراً خارج السياق، تنديد منظمة فيمن، وهي تدعم ناشطاتها اللواتي هجمن على طارق رمضان، ورفضها حضور "دعاة أصوليين برعاية الإخوان المسلمين في فرنسا".
كانت القيادات الإسلامية الحركية المهاجرة إلى الغرب، في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، شأن أغلب المسلمين المهاجرين للغرب بالذات في أوروبا، تنظر إلى هذه الهجرة باعتبارها مرحلةً مؤقتة. لذلك، كانت أعينهم مصوبةً على ما يجري في بلدانهم الأصلية، إلا أنه مع اتجاه الدول الأوروبية إلى تقييد الهجرة، سنت تشريعات لجمع شتات أسر العمال المهاجرين، وهو ما ساهم، مع عدة تطورات أخرى، في حسم قرار الغالبية العظمى من هؤلاء
كان لدى الحكومات الغربية اهتمام بالبحث عن ممثلين للمسلمين، وعن "شركاء معتدلين"، ووجدت تنظيمات "الإخوان" أكثر استعدادا للقيام بالدور، بل بادرت هذه التنظيمات عملياً إلى تقديم نفسها واجهة للأقليات المسلمة. مجمل من ينتمون لكل المجموعات الإسلامية في الدول الأوروبية يترواح في حدود 10% من أعداد المسلمين، فاتجاه التدين لدى الجيلين، الثاني والثالث، من المهاجرين يميل إلى مزيد من الفردنة، بعيداً عن الهياكل التنظيمية، لكن هذا التوجه إلى استقلال التدين لم يتعارض مع أن التأكيد على الهوية الإسلامية غدا جذّاباً للشباب المسلم في الغرب، في ظل شعورهم بعدم تقبل المجتمعات الغربية لهم. وقد برع "الإخوان" في أن يتقدموا الصفوف في القضايا التي تلوح كأنها علامات على أن المسلمين تحت الحصار، وتفرزهم بشكل واضح عن الآخر غير المسلم، وتربطهم بمخيلة الأمة العابرة للحدود. وكما يشير فيدينو "منذ 1988، وقت بروز رواية سلمان رشدي (آيات شيطانية)، حتى الرسوم الكرتونية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى الجدل حول الحجاب"، حشد الإخوان للاحتجاج بنجاح، واستطاعوا تصوير ما يجري جزءاً من عدواة "الغرب" ضد الإسلام والمسلمين.
إلا أن هذا الصراع المتمحور حول الهوية للأقلية المسلمة يتقاطع، كما ينبه أنطونيو نيغري، مع صراعات المطالبة بالحقوق والعدالة بمفردات الحقوق المدنية، سواء على صعيد "الحفاظ على
هذا من جهة محاولة التوفيق أو الارتباك بين التنظير التقليدي للإخوان والتكيف مع الواقع العلماني في الغرب، وما تحدثه أطروحات الإصلاحيين لتطوير هذا التوفيق من جدل. ومن جهةٍ أخرى، يواجه "الإخوان" في الغرب، في سعيهم إلى التكيف مع الواقع العلماني، مزايدة سلفية آخذة بالاتساع. وفي أحيانٍ كثيرة، تأتي هذه الانتقادات من مكانٍ ليس بعيداً عن الدار، فعندما كتب فيصل مولوي كتابه "المسلم مواطناً في أوروبا"، بعث نسخة منه للمراجعة إلى عدنان النحوي، وهو أحد القيادات الإخوانية المحافظة، فكتب النحوي كتاباً يرد عليه فيه، ووصفه بأنه كتاب ينحو "إلى تغريب المسلم اليوم، وتحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعاتٍ غربية الفكر والمنحى". وعندما انتقد القرضاوي سيد قطب في كتاب الأولويات على توجهه التكفيري، ثم كرّر ذلك في "إسلام أون لاين" في العام 2009، واجه دفاعا شرسا من القيادات التقليدية للإخوان العرب، مثل محمود عزت ومحمد مرسي ومحمد بديع.
يقول طارق أوبرو، أحد أهم الشخصيات الإصلاحية المؤثرة في اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، في حوار ساسوبر وبريفو معه، تعليقاً على الجدل المثار حول تذكيره بالفوارق البيولوجية بين الجنسين، في حواره مع ليلى بابيس "ينبغي ألا ننسى أن خلفي جمهور من المؤمنين.. لم يكن من السهل فعلا أن أتحدث، في الوقت نفسه، بلغاتٍ متعددةٍ، وأتوجه إلى جماهير متباينة. كانت النتيجة أنني كنت محافظاً جداً في أعين بعضهم: كما لو أنه يتعين على رجل الدين أن يقول آمين لكل جديد. وفي أعين آخرين، لم أكن مسلماً بما فيه الكفاية، وأني قد انهزمت، لا بل إنني خنت الإسلام"، ولأن شخصياتٍ من نوع أوبرو، تحاول أن تخلق خطاباً تراعي فيه جماهير متباينة، فتخلق ارتباكا لكل هذه الجماهير. ولعوامل أخرى كالمتعلقة باليمين الأوروبي وأزمة الدولة الحديثة بالطبع، لم يكن أمراً خارج السياق، تنديد منظمة فيمن، وهي تدعم ناشطاتها اللواتي هجمن على طارق رمضان، ورفضها حضور "دعاة أصوليين برعاية الإخوان المسلمين في فرنسا".