04 يناير 2022
الشيعة في تونس والمركزيّة الطائفيّة
نشأ التشيّع المعاصر في تونس في أواخر الستّينيات، فقد اعتنق المذهبَ الجعفريَّ أفرادٌ من الناس، ومنهم من اتّصل بالشيعة في المشرق العربيّ، ثم روّج التشيّعَ في أهله وأصحابه. ويُعرَف هذا التيّار في تونس بالتشيّع المذهبيّ. ولمّا قامت الثورة الإيرانيّة ناصرها الإسلام السياسيّ في تونس. ثمّ تشكّل في إطار نشاط الإسلاميّين في الجامعة تيّار "خطّ الإمام"، وكان مؤيّدا لإيران تأييداً سياسيّاً، لم يقترن دائماً باعتناق المذهب. ويُعرف هذا الاتّجاه بالتشيّع السياسيّ. وقد استطاع الاتّجاه الأوّل الاستمرار، وأصبح كثير النشاط في سنوات الألفين، وكان نظام بن علي يراقبه ولا يضيّق عليه. ثمّ أسّس الجمعيّات والأحزاب السياسيّة، وأظهر بعض نشاطه بعد 2011.
وأشهرُ مراجع التقليد عند الشيعة في تونس أربعة: خامنئي والسيستاني والشيرازي وفضل الله. وخامنئي أكثرُهم مقلّدين وأتباعا. وقد ناقش الشيعةُ الواقعَ التونسيّ بعد سقوط النظام، وانتهوا إلى أنّ الثورة التونسيّة لم تصل بعدُ إلى أهدافها، وأنّ الوضع السياسيّ في البلاد غير واضح. ورجّحوا يومئذ أنّه ليس من مصلحتهم الخوض في المسائل السياسيّة، ولا تأسيس حزب سياسيّ يمثّلهم. وعارضوا، بهذا الموقف، محاولةَ أحد أشهر رموزهم تأسيسَ حزب شيعيّ. واهتمّوا بتكوين الشيعة الثقافيّ والعقديّ خاصّة، وطلبوا من إيران إمدادهم بكتب العقائد الشيعيّة لإنشاء المكتبات الدينيّة، فأهمّ ما كان يشغلهم بعد 2011 هو تكوينُ الشيعة العقديُّ، أي تعميقُ التشيّع المذهبيّ، وحصرُ نشاطِ الشيعة المعلن في العمل الثقافيّ، والحيلولةُ دون إظهار الهويّة الشيعيّة في العمل السياسيّ. وقد تُرجمت هذه السياسة في ظهور الجمعيّات الثقافيّة، وهي جمعيّات شيعيّة بغطاء ثقافيّ اجتماعيّ. ولكنّ هذا لا يعني عدم تأسيس الأحزاب، بل يعني عدم إعلان الهويّة الشيعيّة. فقد أسِّس حزبٌ شيعيُّ العقيدة والأهداف، مدنيُّ الظاهر، لأنّ القانون التونسيّ يمنع تأسيس الأحزاب الدينيّة.
ولا يجد المهتمّ بظاهرة التشيّع في تونس صعوبةً في ملاحظة شدّة ارتباط الشيعة بإيران، فمواقفهم السياسيّة ومقالاتهم في صحيفتهم "الصحوة التونسيّة" تؤكّد هذا الأمر. ويُستبعد أن يكون الخطاب الشيعيّ في تونس مستقلّاً ما لم يتحرّر أصحابه من المركزيّة الطائفيّة. وأوّلُ شروط هذا التحرّر تصحيحُ العلاقة بالنظام السياسيّ الأجنبيّ، وبالمؤسّسات الدينيّة التقليديّة الأجنبيّة. فالنظام الأجنبيّ لا يحمي التشيّع وينشره ليعرف الناس "الإسلام الصحيح" ويدخلوا الجنّة، وإنما يبسط سلطته الناعمة، ويحمي مصالحه، كما تفعل كلّ دولة قويّة؛ وهو لا يمثّل
المذهب في العالم، بل يمثّل سلطة الوليّ الفقيه التي تتّخذ المذهب أداةً للهيمنة الرمزيّة والتبعيّة السياسيّة والإلحاق الدينيّ؛ ولا يملك تجربة ديمقراطيّة تعدّديّة، ويَضِيق بأصوات المعارضين من شعبه، فكيف يستطيع أن يساهم في إنجاح الديمقراطيّة التونسيّة الناشئة؟ أمّا الحوزات فمؤسّساتٌ تقليديّة تُنتج التديّنَ الفِرَقِيّ وتصدّره، وتخرّج ضُبَّاط المذهب؛ ولا يمكّنها تكوينها وثقافتها ومنهجها وتاريخها من فهم فلسفة التنوّع، فضلا عن التعدّد؛ وهي ليست مؤسّساتٍ دينيّة مستقلّة عن النظام السياسيّ، فمن العبث ادّعاء الفصل بين الشأن الدينيّ والمتابعة السياسيّة في مسألة التقليد.
والشرط الثاني، التحرّر من عقدة "الحقّ المهجور"، فلا يوجد "إسلامٌ صحيح"، اختصّ الشيعة بمعرفته وتعمّد أهل السنّة هجره ومخالفته. واعتناقُ المرء التشيّع لا يمنحه براءة امتلاك الدين، ولا يضمن له الجنّة وقفا عليه وحده؛ وأشكالُ التديّن كلّها تأويلاتٌ يخترعها الإنسان، وليس أحد من المسلمين بأحقّ من أحد في ادّعاء امتلاك مطلق الحقيقة الدينيّة، فلا معنى إذن لترويج التشيّع باعتباره المذهب الصحيح المطابق للحقيقة الدينيّة.
والشرط الثالث صبغُ التشيّع في تونس بصبغةٍ تونسيّة، فليس من لوازم اعتناقه أن تكون مؤسّساته واحتفالاته الدينيّة مثلاً تقليداً لما يوجد في العراق أو إيران، فيُسمّى المصلَّى حسينيّة لا مسجداً، وتُقام طقوس اللطم في عاشوراء، وتُردَّد الصلاة على النبيّ على الطريقة الفارسيّة.
والشرط الرابع الانتظامُ في التجربة الديمقراطيّة الناشئة انتظاماً لا يؤسَّس فيه الموقف السياسيّ على الاعتقاد الدينيّ، ولا تُوظَّف فيه الحريّة السياسيّة لإنتاج الطائفيّة، فصناعةُ هويّات الانشقاق والتمسّكُ بها وتضخيمُها وتعميمُها شَغبٌ يشوّشُ مفهومَ المواطنة ومدنيّة الدولة والمجتمع، ويحبس المواطن في قفص الطائفيّة، ويحاصر التجربة الديمقراطيّة الناشئة. ولا حاجة في الدولة المدنيّة إلى نشر التشيّع أصلا، فاعتناقُه لا يجعل التونسيّ مواطناً، والخروج منه لا يسقط عنه مواطنته، ولا يسلب حقوقه.
وإذا لم تتحقّق هذه الشروط، فيُستبعد أن يكون التشيّع مكوّناً إيجابيّاً في المشهد الإسلاميّ في تونس، ويُستبعد أيضاً أن تساهم أحزابه السياسيّة وجمعيّاته الثقافيّة - السياسيّةُ في تطوير الديمقراطيّة التونسيّة. وسيظلّ أصحابه، حينئذ، تُبَّعاً للأجنبيّ طائفةً وتنظيماً، وهامشاً من هوامشه فكراً وتديّناً؛ وستظلّ مطالبتهم بحريّة الاعتقاد الدينيّ وبتأسيس الجمعيّات والأحزاب السياسيّة معبّرةً عن حاجة الراعي الأجنبيّ إلى بسط النفوذ والسيادة، لا عن حاجةٍ وطنيّةٍ إلى تطوير التجربة الديمقراطيّة.
وأشهرُ مراجع التقليد عند الشيعة في تونس أربعة: خامنئي والسيستاني والشيرازي وفضل الله. وخامنئي أكثرُهم مقلّدين وأتباعا. وقد ناقش الشيعةُ الواقعَ التونسيّ بعد سقوط النظام، وانتهوا إلى أنّ الثورة التونسيّة لم تصل بعدُ إلى أهدافها، وأنّ الوضع السياسيّ في البلاد غير واضح. ورجّحوا يومئذ أنّه ليس من مصلحتهم الخوض في المسائل السياسيّة، ولا تأسيس حزب سياسيّ يمثّلهم. وعارضوا، بهذا الموقف، محاولةَ أحد أشهر رموزهم تأسيسَ حزب شيعيّ. واهتمّوا بتكوين الشيعة الثقافيّ والعقديّ خاصّة، وطلبوا من إيران إمدادهم بكتب العقائد الشيعيّة لإنشاء المكتبات الدينيّة، فأهمّ ما كان يشغلهم بعد 2011 هو تكوينُ الشيعة العقديُّ، أي تعميقُ التشيّع المذهبيّ، وحصرُ نشاطِ الشيعة المعلن في العمل الثقافيّ، والحيلولةُ دون إظهار الهويّة الشيعيّة في العمل السياسيّ. وقد تُرجمت هذه السياسة في ظهور الجمعيّات الثقافيّة، وهي جمعيّات شيعيّة بغطاء ثقافيّ اجتماعيّ. ولكنّ هذا لا يعني عدم تأسيس الأحزاب، بل يعني عدم إعلان الهويّة الشيعيّة. فقد أسِّس حزبٌ شيعيُّ العقيدة والأهداف، مدنيُّ الظاهر، لأنّ القانون التونسيّ يمنع تأسيس الأحزاب الدينيّة.
ولا يجد المهتمّ بظاهرة التشيّع في تونس صعوبةً في ملاحظة شدّة ارتباط الشيعة بإيران، فمواقفهم السياسيّة ومقالاتهم في صحيفتهم "الصحوة التونسيّة" تؤكّد هذا الأمر. ويُستبعد أن يكون الخطاب الشيعيّ في تونس مستقلّاً ما لم يتحرّر أصحابه من المركزيّة الطائفيّة. وأوّلُ شروط هذا التحرّر تصحيحُ العلاقة بالنظام السياسيّ الأجنبيّ، وبالمؤسّسات الدينيّة التقليديّة الأجنبيّة. فالنظام الأجنبيّ لا يحمي التشيّع وينشره ليعرف الناس "الإسلام الصحيح" ويدخلوا الجنّة، وإنما يبسط سلطته الناعمة، ويحمي مصالحه، كما تفعل كلّ دولة قويّة؛ وهو لا يمثّل
والشرط الثاني، التحرّر من عقدة "الحقّ المهجور"، فلا يوجد "إسلامٌ صحيح"، اختصّ الشيعة بمعرفته وتعمّد أهل السنّة هجره ومخالفته. واعتناقُ المرء التشيّع لا يمنحه براءة امتلاك الدين، ولا يضمن له الجنّة وقفا عليه وحده؛ وأشكالُ التديّن كلّها تأويلاتٌ يخترعها الإنسان، وليس أحد من المسلمين بأحقّ من أحد في ادّعاء امتلاك مطلق الحقيقة الدينيّة، فلا معنى إذن لترويج التشيّع باعتباره المذهب الصحيح المطابق للحقيقة الدينيّة.
والشرط الثالث صبغُ التشيّع في تونس بصبغةٍ تونسيّة، فليس من لوازم اعتناقه أن تكون مؤسّساته واحتفالاته الدينيّة مثلاً تقليداً لما يوجد في العراق أو إيران، فيُسمّى المصلَّى حسينيّة لا مسجداً، وتُقام طقوس اللطم في عاشوراء، وتُردَّد الصلاة على النبيّ على الطريقة الفارسيّة.
والشرط الرابع الانتظامُ في التجربة الديمقراطيّة الناشئة انتظاماً لا يؤسَّس فيه الموقف السياسيّ على الاعتقاد الدينيّ، ولا تُوظَّف فيه الحريّة السياسيّة لإنتاج الطائفيّة، فصناعةُ هويّات الانشقاق والتمسّكُ بها وتضخيمُها وتعميمُها شَغبٌ يشوّشُ مفهومَ المواطنة ومدنيّة الدولة والمجتمع، ويحبس المواطن في قفص الطائفيّة، ويحاصر التجربة الديمقراطيّة الناشئة. ولا حاجة في الدولة المدنيّة إلى نشر التشيّع أصلا، فاعتناقُه لا يجعل التونسيّ مواطناً، والخروج منه لا يسقط عنه مواطنته، ولا يسلب حقوقه.
وإذا لم تتحقّق هذه الشروط، فيُستبعد أن يكون التشيّع مكوّناً إيجابيّاً في المشهد الإسلاميّ في تونس، ويُستبعد أيضاً أن تساهم أحزابه السياسيّة وجمعيّاته الثقافيّة - السياسيّةُ في تطوير الديمقراطيّة التونسيّة. وسيظلّ أصحابه، حينئذ، تُبَّعاً للأجنبيّ طائفةً وتنظيماً، وهامشاً من هوامشه فكراً وتديّناً؛ وستظلّ مطالبتهم بحريّة الاعتقاد الدينيّ وبتأسيس الجمعيّات والأحزاب السياسيّة معبّرةً عن حاجة الراعي الأجنبيّ إلى بسط النفوذ والسيادة، لا عن حاجةٍ وطنيّةٍ إلى تطوير التجربة الديمقراطيّة.