06 نوفمبر 2024
جماهير الحرب في اليمن.. جمل المعصرة
في الثورات، هناك أنماط محدّدة يمكن، من خلالها، فهم حركة الجماهير ودوافع احتجاجاتها. لكن، من الصعب التنبؤ بحركة الجماهير في لحظاتٍ فارقةٍ من تاريخها، كالحروب والانهيارات الوطنية، إذ لم تعنَ دراسات كثيرة بالمحرّك الفعلي لهذه الجماهير في هذه الظروف، بحيث تستطيع الخروج بنتائج يمكن استقراؤها في تجارب أخرى، ففي الثورة يكون العقل الجمعي للجماهير واضحاً في تحديد أولويات خياراته، وفي مقدمتها خيار الحرية، وحتى مع تباين أجندات القوى السياسية المنخرطة بهذه الجماهير وانقسامها، يمكن أن نلحظ مشتركاً وطنياً ناظماً لدوافعها، يتجاوز صراع القوى السياسية وتناقضاتها.
خلافا لحركة الجماهير في الثورات، تعيش المجتمعات في الحروب حالة نكوصٍ واغتراب عن الواقع الذي انتجته بيئة الحرب، إضافة إلى عدم ثقتها في أجندات أطراف الحرب ومشروعيتها الوطنية، وبالتالي، لا تنخرط هذه المجتمعات في حراك اجتماعي، إلا للضغط على أطراف الحرب بايقاف دورة العنف، ومطالبتها بإحلال السلام، وهو ما يتطلب تراكماً في الوعي لدى هذه المجتمعات، لإدراك فاتورة الحرب الباهظة التي دفعتها. قلة ربما من المجتمعات يتولد فيها حراك سياسي انفعالي، مرهون بإرادة أطراف الحرب، جاعلة من نفسها أداة لدى هذه الأطراف، لاستخدامها وفقا أجنداتها.
في اليمن، يبدو أن التظاهرات التي تحدث، بين وقت وآخر، لا تخرج عن إطار الحراك السياسي التقليدي لمرحلة ما قبل الحرب، إذ لا تزال معبرةً عن الخيارات السياسية لهذه الأطراف، لا عن خيارات المتظاهرين ومطالبهم الشعبية التي فرضها واقع الحرب وتحدياته. في مدينتي تعز وعدن، وتزامنا مع إطلاق المبعوث الدولي، إسماعيل ولد الشيخ، خارطة الطريق، ومع كل التحفظات حول هذه المبادرة، خرجت التظاهرات في المدينتين للمطالبة بتنفيذ
القرار الأممي 2216، بما يضمن عدم المساس برمزية الرئيس عبدربه منصور هادي، إلا أن اللافت، في هذه التظاهرات، تمترسها حول شخص الرئيس هادي، وعدم تبنيها مطالب تمسّ الحياة اليومية، كتحسين الأوضاع الاقتصادية، وكسر الحصار عن مدينة تعز، إذ لا تزال هذه الجماهير تدور في حالة الاستقطاب السياسي، ولم تتجاوب مع ما تفرضه الحرب من تحدياتٍ جديدة. وفي عدن، تمثل المظاهرات المؤيدة لشرعية الرئيس هادي حالةً فريدة للدراسة، كونها مؤشراً لحدة التناقضات السياسية والاجتماعية في هذه المدينة، إذ لا يمكن اعتبارها تأييداً شعبياً لمشروع اليمن الاتحادي الذي يتبناه هادي، فعلى الرغم من تردّي الخدمات والانفلات الأمني، فإن الجماهير لم تعبر عن رفضها كيفية إدارة سلطة هادي المدينة المحرّرة، ولم تطالب بعودتها وبمراقبة أداء مؤسسات الدولة.
تحت شعارات ومضامين سياسية مختلفة، خرجت في العاصمة صنعاء، الواقعة تحت سلطة الأمر الواقع لجماعة الحوثي وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تظاهرات شعبية رافضة مبادرة ولد الشيخ، ومؤيدة لصالح والحوثي في استمرار حربهم ضد اليمنيين. عدا عن حالة العماء التي تعيشها هذه الجماهير، لا يمكن فهم عقلية هذه الجماهير التي تجاهلت الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أصابتها، بعد نهب الحوثيين البنك المركزي، ومصادرتهم رواتب موظفي الدولة، وخروجها تأييداً لخيارات أمراء الحرب، في حين يستمر المقربون من جماعة الحوثي وصالح في الإثراء على حساب هذه الجماهير المسحوقة.
لا يمكن بأي حال اعتبار هذه التظاهرات السياسية التي انطلقت في هذه المدن اليمنية، الحامل الوطني لمطالب معظم اليمنيين، أو معبرة عن مصالحهم الوطنية؛ فعلى هامش هذه التظاهرات، هناك غالبية صامتة من اليمنيين الذين يدينون الحرب، بقدر إدانتهم أطرافها، مدركين أن الحرب لم تكن خيارهم، وفرضت عليهم من هذه الأطراف، وبالتالي، وكما حدث أيضاً في الثورة، بعد فرض المبادرة الخليجية على الضد من المطالب الشعبية لليمنيين، فإنه، في حال فرض خيار سياسي على أطراف الحرب، لن يتم البحث عن حلول آمنة لليمنيين، تمنع تكرار الحرب، وإنما سيتم ضمان تسوية سياسية ترضي هذه الأطراف، وتضمن لها استحقاقاً سياسياً في المستقبل.
لا يزال المجتمع اليمني يدور خلف المشكلات التي أحدثتها أطراف الحرب، ولم يستوعب الدرس البديهي منها، وهو فشل هذه الأطراف في السياسة، كما في الحرب، وضرورة انحياز المجتمع لخياراته العادلة، بعيداً عن طموح أطراف الحرب.
بحسب تفسير الفيلسوفة، حنة أرندت، عن العلاقة المتبادلة بين الحرب والثورة، من الممكن، في سياقاتٍ طبيعية، أن تؤدي الحرب إلى ثورةٍ تطيح سلطات الحرب وأمراءها. لكن، من الصعب
إسقاط نظرية حنة أرندت على الحالة اليمنية في الظروف الراهنة، إذ لا يمكن التنبؤ بتبلور نواة ثورةٍ اجتماعية في اليمن ضد أطراف الحرب وسلطاتها المتعددة. لا زالت التظاهرات في اليمن، وبعد أكثر من تسعة عشر شهراً منذ بدء الحرب، تعكس تموضعات أطراف الصراع، على الرغم من توفر كل الشروط الموضوعية التي تجعل من الثورة الاجتماعية خياراً حتمياً للمقهورين، بدءاً بتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتفشّي المجاعة، وتجريف الطبقة المتوسطة، وفشل كل من السلطة الشرعية وسلطة الأمر الواقع في إدارة المناطق الواقعة تحت سلطتهما. لكن، وفقاً لسياقات ثورة 2011، وإفراغها من مضامينها الاجتماعية، إضافة إلى تجريف القوى المدينية والمثقفين التي كان يمكن أن تنهض بهذا الدور في الوقت الراهن، فإن المجتمع اليمني الذي قسمته الحرب، وجعلته بعيداً عن أن يكون صاحب القرار الوطني في صياغة مستقبل اليمن، وأحلت محله مليشيات سياسية أو دينية، تحمل مشاريع ما دون وطنية، أو جماهير منوّمة، تقاد وفقاً لأجندة أطراف الحرب، وتعبر عن قناعاته، لا قناعاتها.
في المعصرة التقليدية لزيت السمسم، يدور الجمل معصوب العينين في حركةٍ دائريةٍ شاقة، من دون أن يرى ما يعصره، وتوقفه عن الدوران مرهون بما يريده العصّار، لا بمقدار إنهاكه، وهذا حال اليمنيين اليوم: جماهير معصوبة العينين تُهدر حياتها، من دون احتجاج، أو تكتفي بالدوران حول الحرب وقادتها وأمرائها، في انتظار فرج قادم من المجهول.
خلافا لحركة الجماهير في الثورات، تعيش المجتمعات في الحروب حالة نكوصٍ واغتراب عن الواقع الذي انتجته بيئة الحرب، إضافة إلى عدم ثقتها في أجندات أطراف الحرب ومشروعيتها الوطنية، وبالتالي، لا تنخرط هذه المجتمعات في حراك اجتماعي، إلا للضغط على أطراف الحرب بايقاف دورة العنف، ومطالبتها بإحلال السلام، وهو ما يتطلب تراكماً في الوعي لدى هذه المجتمعات، لإدراك فاتورة الحرب الباهظة التي دفعتها. قلة ربما من المجتمعات يتولد فيها حراك سياسي انفعالي، مرهون بإرادة أطراف الحرب، جاعلة من نفسها أداة لدى هذه الأطراف، لاستخدامها وفقا أجنداتها.
في اليمن، يبدو أن التظاهرات التي تحدث، بين وقت وآخر، لا تخرج عن إطار الحراك السياسي التقليدي لمرحلة ما قبل الحرب، إذ لا تزال معبرةً عن الخيارات السياسية لهذه الأطراف، لا عن خيارات المتظاهرين ومطالبهم الشعبية التي فرضها واقع الحرب وتحدياته. في مدينتي تعز وعدن، وتزامنا مع إطلاق المبعوث الدولي، إسماعيل ولد الشيخ، خارطة الطريق، ومع كل التحفظات حول هذه المبادرة، خرجت التظاهرات في المدينتين للمطالبة بتنفيذ
تحت شعارات ومضامين سياسية مختلفة، خرجت في العاصمة صنعاء، الواقعة تحت سلطة الأمر الواقع لجماعة الحوثي وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تظاهرات شعبية رافضة مبادرة ولد الشيخ، ومؤيدة لصالح والحوثي في استمرار حربهم ضد اليمنيين. عدا عن حالة العماء التي تعيشها هذه الجماهير، لا يمكن فهم عقلية هذه الجماهير التي تجاهلت الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أصابتها، بعد نهب الحوثيين البنك المركزي، ومصادرتهم رواتب موظفي الدولة، وخروجها تأييداً لخيارات أمراء الحرب، في حين يستمر المقربون من جماعة الحوثي وصالح في الإثراء على حساب هذه الجماهير المسحوقة.
لا يمكن بأي حال اعتبار هذه التظاهرات السياسية التي انطلقت في هذه المدن اليمنية، الحامل الوطني لمطالب معظم اليمنيين، أو معبرة عن مصالحهم الوطنية؛ فعلى هامش هذه التظاهرات، هناك غالبية صامتة من اليمنيين الذين يدينون الحرب، بقدر إدانتهم أطرافها، مدركين أن الحرب لم تكن خيارهم، وفرضت عليهم من هذه الأطراف، وبالتالي، وكما حدث أيضاً في الثورة، بعد فرض المبادرة الخليجية على الضد من المطالب الشعبية لليمنيين، فإنه، في حال فرض خيار سياسي على أطراف الحرب، لن يتم البحث عن حلول آمنة لليمنيين، تمنع تكرار الحرب، وإنما سيتم ضمان تسوية سياسية ترضي هذه الأطراف، وتضمن لها استحقاقاً سياسياً في المستقبل.
لا يزال المجتمع اليمني يدور خلف المشكلات التي أحدثتها أطراف الحرب، ولم يستوعب الدرس البديهي منها، وهو فشل هذه الأطراف في السياسة، كما في الحرب، وضرورة انحياز المجتمع لخياراته العادلة، بعيداً عن طموح أطراف الحرب.
بحسب تفسير الفيلسوفة، حنة أرندت، عن العلاقة المتبادلة بين الحرب والثورة، من الممكن، في سياقاتٍ طبيعية، أن تؤدي الحرب إلى ثورةٍ تطيح سلطات الحرب وأمراءها. لكن، من الصعب
في المعصرة التقليدية لزيت السمسم، يدور الجمل معصوب العينين في حركةٍ دائريةٍ شاقة، من دون أن يرى ما يعصره، وتوقفه عن الدوران مرهون بما يريده العصّار، لا بمقدار إنهاكه، وهذا حال اليمنيين اليوم: جماهير معصوبة العينين تُهدر حياتها، من دون احتجاج، أو تكتفي بالدوران حول الحرب وقادتها وأمرائها، في انتظار فرج قادم من المجهول.