12 مارس 2022
التاريخ إذ يسخر ويثأر
يقدّم التاريخ دروساً بالغة الدلالة والقسوة في آن. يصل بعضها إلى حدّ التشفّي المطلق، ويصل بعضها إلى حدود المفارقة الكبرى أو التراجيديا.
يتردد أن الجنرال غورو وقف أمام قبر صلاح الدين في دمشق ليقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين. إذا كانت هذه الرواية صحيحة، فإنها قد تكون واحدة من تلك الدروس المقلقة، وأن يخرج الفرنسيون من سورية في ما بعد، ردّ بليغ على عدالة التاريخ. وأن يصل ميشال عون إلى سدة الرئاسة اللبنانية بموافقة سورية/إيرانية/روسية، وهو الذي أخرجه الجيش السوري من قصر بعبدا قوياً، ليحكم اليوم رئيساً ضعيفاً وتابعاً لحزبٍ أقوى من الدولة التي حلم يوما ببنائها، هو نموذج لدرس تراجيدي يقدّمه لنا التاريخ المعاش راهناً، من دون أن يكون هذا هو الدرس الوحيد، إذ يبدو أن التحوّلات التي يعيشها عالم اليوم تقدّم دروساً كثيرةً، منها أن يفوز المرشح الأميركي الذي يؤيده الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الطامح لإعادة "المجد السوفياتي" الذي حطّمته القوة "الإمبريالية" الأميركية!
قبل قرن، وقف العرب، بقيادة الشريف حسين، ضد الإمبراطورية العثمانية، إذ وضعوا كامل "بيضهم" في السلّة البريطانية/ الفرنسية، أملاً بمملكةٍ عربيةٍ، تجد مكاناً لها تحت الشمس، فكانوا أن سلكوا الطريق الأسهل والأبعد للتغيير، أي المراهنة على القوى الخارجية أكثر من الداخل، بحيث أصبحت كل أدوات الداخل (خصوصاً الجيش الذي كان يدربه ويشرف عليه البريطانيون) بيد الخارج الذي تعامل معها كأدوات قابلة للبيع والشراء في سوق السياسة، وهو ما حصل حين حدثت ساعة التسويات النهائية، ليغادر الشريف وأبناؤه مسرح التاريخ، نتيجة قصر النظر السياسي، ولتدخل العلاقة التركية العربية أزمة ثقةٍ وأزمة جرح أيضاً، إذ لا يزال الأتراك ينظرون لما فعله الشريف، بوصفه خيانة وجرحاً لم يُطوَ (من دون أن يندمل) إلا مع عودة حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ولكن أيضاً وفق الشروط التركية!
ما يجري عربياً اليوم يظهر أنّ العرب، من الرياض حتى دمشق، لم يغادروا مربّع المراهقة
السياسية بعد، إذ لا تزال السياسة تمارس بوصفها قوة الارتباطات الخارجية بهذا المشروع أو ذاك، بعيداً عن أيّة أبعاد وطنية داخلية، ولعلّ سلوك المعارضة السورية وفصائلها العسكرية وأيضاً الفصائل الكردية تقول الكثير في هذا السياق، إذ ما زال الخارج يهيمن على قراراتها وتسليحها وكلّ تفاصيلها، محوّلاً إياها إلى مجرد بيدقٍ في الصراع الإقليمي الدولي الذي يحدث اليوم، وسط علائم بالغة الدلالة والوضوح، فالحديث الأردوغاني الدائم والمتواتر عن الإمبراطورية العثمانية والحدود لم يكن أوضح مما هو عليه اليوم، إذ قال، في خطابٍ له، في ذكرى وفاة مؤسس الدولة التركية "إخواننا في القرم والقوقاز وحلب والموصل، يمكن أن يكونوا خارج حدودنا الطبيعية، لكنهم ضمن حدودنا العاطفية"، ما يذكّر بكلام إيراني وأميركي وروسي مشابه، قيل سابقا ويقال اليوم، الأمر الذي يوضح أن المنطقة العربية عادت لتكون مجال نزاع دولي إقليمي، ومن دون أن تمتلك مشروعاً وطنياً، سواء على مستوى الزعامة أو المشروع، الأمر الذي يجعل منها "مفعولاً" به لا فاعلا، وسط "إمارات الطوائف" التي لا تفكّر بأبعد من البقاء في الحكم أولاً، ووسط مراهقة سياسية تعيشها النخب والأحزاب "المعارضة" على امتداد تلك المنطقة.
إسلامياً أو شرق أوسطياً، طالما تمحور الصراع التاريخي بين بغداد (موقع الخلافة) وبلاد فارس والقسطنطينة، ويقول التاريخ إن العرب غادروا مسرح التاريخ منذ انهيار الدولة العباسية، لتكون محاولات محمد علي باشا والشريف حسين وجمال عبد الناصر، على سبيل المثال، في استعادة المشروع العربي، إذ سقط الأول بفعل قوة الدولة العثمانية وتوازنات القوى الدولية، وسقط الثاني بفعل مراهقته، وسقط الثالث بفعل قوة التدخلات الخارجية ضده والاستبداد الداخلي الذي بني عليه المشروع، ليقف العرب اليوم أمام خواء تاريخي، فلا دولة ولا مشروع ولا حتى إيديولوجية توحّدهم، في الوقت الذي يتقدم فيه الروسي بمشروعه الجديد، والتركي بعثمانيته الحديثة، والإيراني بـ"ولاية الفقيه" التي أعلنت، بوضوح، أنّ أربع عواصم عربية (دمشق، بيروت، صنعاء، بغداد) باتت في مجالها الحيوي.
الأكثر فجائعية أنّ المشاريع تتقدم وسط تفكّك كل الدول التي حاول يوماً الشريف حسين أن
تكون ضمن مملكته، ولم يبق منها إلا المملكة العربية السعودية التي تحوز إرثاً ما تستمده من المكانة الرمزية دينياً، ولكن من دون مشروع سياسي واضح الملامح، فرؤية عام 2030 تبدو موجهة إلى الداخل ولترتيب البيت الداخلي السعودي أكثر مما هي موجّهة لمواجهة مشاريع إقليمية، لا يبدو أن الرياض قادرة على حملها، لأسباب كثيرة، منها خسارة جزء كبير من المظلة الدولية التي كانت تستظل بها بعد سياسات الرئيس الأميركي، باراك أباما، أخيراً، ومجيء دونالد ترامب، ما لا يترك للرياض إلا أن تشارك تركيا في مواجهة تحديات مقبلة، وهنا يكمن خبث التاريخ: هل يثأر أردوغان لما فعله الشريف حسين يوماً؟
يتردد أن الجنرال غورو وقف أمام قبر صلاح الدين في دمشق ليقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين. إذا كانت هذه الرواية صحيحة، فإنها قد تكون واحدة من تلك الدروس المقلقة، وأن يخرج الفرنسيون من سورية في ما بعد، ردّ بليغ على عدالة التاريخ. وأن يصل ميشال عون إلى سدة الرئاسة اللبنانية بموافقة سورية/إيرانية/روسية، وهو الذي أخرجه الجيش السوري من قصر بعبدا قوياً، ليحكم اليوم رئيساً ضعيفاً وتابعاً لحزبٍ أقوى من الدولة التي حلم يوما ببنائها، هو نموذج لدرس تراجيدي يقدّمه لنا التاريخ المعاش راهناً، من دون أن يكون هذا هو الدرس الوحيد، إذ يبدو أن التحوّلات التي يعيشها عالم اليوم تقدّم دروساً كثيرةً، منها أن يفوز المرشح الأميركي الذي يؤيده الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الطامح لإعادة "المجد السوفياتي" الذي حطّمته القوة "الإمبريالية" الأميركية!
قبل قرن، وقف العرب، بقيادة الشريف حسين، ضد الإمبراطورية العثمانية، إذ وضعوا كامل "بيضهم" في السلّة البريطانية/ الفرنسية، أملاً بمملكةٍ عربيةٍ، تجد مكاناً لها تحت الشمس، فكانوا أن سلكوا الطريق الأسهل والأبعد للتغيير، أي المراهنة على القوى الخارجية أكثر من الداخل، بحيث أصبحت كل أدوات الداخل (خصوصاً الجيش الذي كان يدربه ويشرف عليه البريطانيون) بيد الخارج الذي تعامل معها كأدوات قابلة للبيع والشراء في سوق السياسة، وهو ما حصل حين حدثت ساعة التسويات النهائية، ليغادر الشريف وأبناؤه مسرح التاريخ، نتيجة قصر النظر السياسي، ولتدخل العلاقة التركية العربية أزمة ثقةٍ وأزمة جرح أيضاً، إذ لا يزال الأتراك ينظرون لما فعله الشريف، بوصفه خيانة وجرحاً لم يُطوَ (من دون أن يندمل) إلا مع عودة حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ولكن أيضاً وفق الشروط التركية!
ما يجري عربياً اليوم يظهر أنّ العرب، من الرياض حتى دمشق، لم يغادروا مربّع المراهقة
إسلامياً أو شرق أوسطياً، طالما تمحور الصراع التاريخي بين بغداد (موقع الخلافة) وبلاد فارس والقسطنطينة، ويقول التاريخ إن العرب غادروا مسرح التاريخ منذ انهيار الدولة العباسية، لتكون محاولات محمد علي باشا والشريف حسين وجمال عبد الناصر، على سبيل المثال، في استعادة المشروع العربي، إذ سقط الأول بفعل قوة الدولة العثمانية وتوازنات القوى الدولية، وسقط الثاني بفعل مراهقته، وسقط الثالث بفعل قوة التدخلات الخارجية ضده والاستبداد الداخلي الذي بني عليه المشروع، ليقف العرب اليوم أمام خواء تاريخي، فلا دولة ولا مشروع ولا حتى إيديولوجية توحّدهم، في الوقت الذي يتقدم فيه الروسي بمشروعه الجديد، والتركي بعثمانيته الحديثة، والإيراني بـ"ولاية الفقيه" التي أعلنت، بوضوح، أنّ أربع عواصم عربية (دمشق، بيروت، صنعاء، بغداد) باتت في مجالها الحيوي.
الأكثر فجائعية أنّ المشاريع تتقدم وسط تفكّك كل الدول التي حاول يوماً الشريف حسين أن