06 نوفمبر 2024
ما بعد مأساة حلب
كشف المشهد اللا إنساني في مدينة حلب عن صورةٍ مكثفةٍ للمأساة السورية بكل أبعادها، تعيد إلى أذهاننا اليوم سردية الفظاعات في الحرب العالمية الثانية، وصور الناجين من التصفيات الجماعية في سربرنيتسا، في أثناء حرب البوسنة والهرسك في تسعينات القرن الماضي. وبقدر ما كشفت عنه أحداث حلب من بشاعةٍ، فإنها عرّت المجتمع الدولي، وأكدت انحيازاته اللا أخلاقية، إذ أسقطت القفازات الناعمة التي طالما ارتداها المجتمع الدولي في ملامسته الأزمة السورية؛ فعلى مدار أكثر من خمس سنوات، ظل المجتمع الدولي يبرّر صمته عن استمرار نزيف الدم السوري من نظام بشار الأسد وحلفائه بقصور الحلول السياسية أمام تعقيدات الأزمة السورية، وتعقيدات الفاعلين الرئيسيين فيها.
تأكد في مأساة مدينة حلب أن خلف المعادلة السياسية والعسكرية التي تسببت بتلك الأحداث ثمّة سيناريو محدّدا تتحرك وفقه أزمات منطقة الشرق الأوسط وحروبها في الوقت الراهن، وأن هذا السيناريو لم تُحدثه المسارات المتشابكة التي دخلتها الثورة السورية، كما كان يُعتقد سابقاً، وإنما إرادة المجتمع الدولي في تفسير جذور الصراع وفق الخيارات الآمنة بالنسبة له. إذ بات جلياً اليوم أن التواطؤ الدولي هو ما مكّن قوات النظام السوري، بمعية القوات الروسية، من السيطرة على حلب الشرقية، وأن تغيير خريطة الصراع في مدينة حلب قد يكون جزءاً مدروساً من تغييرٍ أكبر سيطاول خارطة الصراع في الشرق الأوسط في المستقبل القريب.
لا يمكن، في أي حال، اقتصار قراءة أحداث مدينة حلب على الفشل الذريع للأدوات السياسية للمجتمع الدولي، وعدم قدرته على التدخل العاجل لتقليم الطموحات الروسية في سورية، أو على الأقل تحييدها بما لا يضرّ مصلحة السوريين؛ إذ يبدو أن أحداث حلب جرت وفق سياق أولي لشكل التوافقات الإقليمية والدولية، توافقات تم بموجبها التضحية بالسوريين في مقابل
المحافظة على شكل الفوضى، وحصرها في الجغرافية السورية. توحي متابعة معطيات الأزمة السورية منذ أكثر من عام بالمسار الذي كانت تمضي به الأحداث، على أن المجتمع الدولي لا يكترث فعلياً للمأساة الإنسانية في سورية، بقدر ما يأتي اكتراثه من الملل من الصراع المحتدم في منطقة الشرق الأوسط، وسورية خصوصاً، وقلقه من ارتداداته الأمنية على بلدانها، وبالتالي، فإن حلول المجتمع الدولي لتلك الأزمات لم تأت أولوية إنسانية تنطلق من حماية خيارات شعوبها وحقها في حياة كريمة، وتركّزت أولوية المجتمع الدولي في استثمار هذه الفوضى، لكبح جماع الجماعات الدينية المنضوية تحت الإسلام السني، باعتباره التحدّي الرئيسي بالنسبة للمجتمع الدولي.
كشفت أحداث مدينة حلب عن شواهد واضحة لتواطؤ المجتمع الدولي في تجريف شعارات الثورة السورية، فحتى الدول التي طالما تشدّقت بدعمها الثورة السورية، كالنظام التركي، تعاطت، في الأخير، مع نظام بشار الأسد باعتباره جزءاً من المعادلة السياسية لحل الأزمة، وهو ما مكّنه من استعادة حلب الشرقية، والدخول في التفاهمات بشأن إجلاء المقاتلين المسلحين من المعارضة وعائلاتهم، وأسوأ ما في الأمر أن نظام بشار الأسد عد تلك التفاهمات انتصاراً له، متجاهلاً أنه لم يكن سوى شرطي مطيع لإدارة المصالح الروسية، مكرّساً بذلك وضع سورية والسوريين تحت الانتداب الروسي.
في المقابل، كشفت أحداث مدينة حلب عن خلل قوى الثورة السورية، واصطفافها خلف مشاريع غائمة، إذ فشلت هذه القوى، أكثر من خمس سنوات من عمر الثورة، في إيجاد هويتها السياسية المستقلة، وتقديم نفسها خارج اصطفافات ثنائية النظام السوري ومؤيديه من جهة والجماعات الإسلامية المعارضة له من جهة أخرى؛ فبسبب عمق أزمتها الداخليه، لم تحرص قوى الثورة على مراكمة تجربتها السياسية لإيجاد أدواتٍ فاعلة تمكّنها من أن تصبح قوةً اجتماعيةً قادرةً على فرض خياراتها في الواقع السوري، بما يؤسّس لبلورة مشروع وطني جامع للسوريين، على اختلاف طوائفهم. وعدا عن تمركز اهتمام قوى الثورة في التمظهرات الإعلامية، وتنافسية زعاماتها السياسية في تشكيل ائتلافاتٍ سياسية متنافرة، ظلت هذه القوى أسيرة ارتهانها لأزماتها الداخلية، وتحوّلت، على اختلاف تموضعاتها الفكرية، إلى كومبارس في خلفية المشهد السوري، في حين نجحت القوى الإسلامية في اختزال تمثيلها معارضة نظام بشار الأسد، وهو ما التقطه النظام السوري، ونجح في تسويقه للمجتمع الدولي، باعتبار أن إطاحته ستعني فوضى سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة على السلطة في سورية.
السوريون العالقون في مدينة حلب في انتظار مصيرهم المظلم، أو الذين غادروها تاركين
منازلهم متجهين إلى المجهول، غير معنيين بالتناقضات السياسية في مواقف المجتمع الدولي من قضيتهم، ولا بتشتت قوى الثورة السورية وانتهازية بعض فصائلها، ولا ببطش النظام وحلفائه؛ فما هو أكيد بالنسبة لهم اليوم أنهم وحيدون ومخذولون، وبأن المتفرجين الكثيرين على مأساتهم غير معنيين بمأساتهم، إلا بقدر ما هم دمىً في سيرك الدم الذي شيّده العالم بحرفةٍ عاليةٍ قل نظيرها، وبقدر ما يمكن استثمار هذه الدمى في مهرجانات اللطم والعويل الممولة.
لم يعد ثمّة ما يمكن التأكيد عليه سوى مأساة حلب، وحقيقة أن ما بعد حلب لن يكون أبداً كما قبلها، ولعل جريمة اغتيال السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، ليست سوى تجلّ لمستوى العنف الذي ستشهده المنطقة مستقبلاً؛ فالواقع الذي أوجدته أحداث حلب المأساوية منعطف حاد في تاريخ الصراع والحروب في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي سيلقي بظلاله على أزمات بلدانٍ أخرى تشهد حروباً هي الأخرى، وأن تلك التداعيات ستتجلى في شكل التوافقات الإقليمية الجائرة التي ستنتهجها الدول المتدخلة في أزمات هذه البلدان وأدواتها المحلية، إضافة إلى ما ولدته آلة القهر الإجرامي للأنظمة المستبدة وحلفائها الدوليين، ليس فقط على من عايش تلك التجربة المريرة من السوريين، وإنما على جميع من هزّته صور الناجين من حلب المدمرة وشهاداتهم، ما يعني استدامة جذور الصراع، وتكريس بنية التشدد الديني، بشقيه السني والشيعي، والذي سيجد متنفساً للتعبير عن ضراوته.
تأكد في مأساة مدينة حلب أن خلف المعادلة السياسية والعسكرية التي تسببت بتلك الأحداث ثمّة سيناريو محدّدا تتحرك وفقه أزمات منطقة الشرق الأوسط وحروبها في الوقت الراهن، وأن هذا السيناريو لم تُحدثه المسارات المتشابكة التي دخلتها الثورة السورية، كما كان يُعتقد سابقاً، وإنما إرادة المجتمع الدولي في تفسير جذور الصراع وفق الخيارات الآمنة بالنسبة له. إذ بات جلياً اليوم أن التواطؤ الدولي هو ما مكّن قوات النظام السوري، بمعية القوات الروسية، من السيطرة على حلب الشرقية، وأن تغيير خريطة الصراع في مدينة حلب قد يكون جزءاً مدروساً من تغييرٍ أكبر سيطاول خارطة الصراع في الشرق الأوسط في المستقبل القريب.
لا يمكن، في أي حال، اقتصار قراءة أحداث مدينة حلب على الفشل الذريع للأدوات السياسية للمجتمع الدولي، وعدم قدرته على التدخل العاجل لتقليم الطموحات الروسية في سورية، أو على الأقل تحييدها بما لا يضرّ مصلحة السوريين؛ إذ يبدو أن أحداث حلب جرت وفق سياق أولي لشكل التوافقات الإقليمية والدولية، توافقات تم بموجبها التضحية بالسوريين في مقابل
كشفت أحداث مدينة حلب عن شواهد واضحة لتواطؤ المجتمع الدولي في تجريف شعارات الثورة السورية، فحتى الدول التي طالما تشدّقت بدعمها الثورة السورية، كالنظام التركي، تعاطت، في الأخير، مع نظام بشار الأسد باعتباره جزءاً من المعادلة السياسية لحل الأزمة، وهو ما مكّنه من استعادة حلب الشرقية، والدخول في التفاهمات بشأن إجلاء المقاتلين المسلحين من المعارضة وعائلاتهم، وأسوأ ما في الأمر أن نظام بشار الأسد عد تلك التفاهمات انتصاراً له، متجاهلاً أنه لم يكن سوى شرطي مطيع لإدارة المصالح الروسية، مكرّساً بذلك وضع سورية والسوريين تحت الانتداب الروسي.
في المقابل، كشفت أحداث مدينة حلب عن خلل قوى الثورة السورية، واصطفافها خلف مشاريع غائمة، إذ فشلت هذه القوى، أكثر من خمس سنوات من عمر الثورة، في إيجاد هويتها السياسية المستقلة، وتقديم نفسها خارج اصطفافات ثنائية النظام السوري ومؤيديه من جهة والجماعات الإسلامية المعارضة له من جهة أخرى؛ فبسبب عمق أزمتها الداخليه، لم تحرص قوى الثورة على مراكمة تجربتها السياسية لإيجاد أدواتٍ فاعلة تمكّنها من أن تصبح قوةً اجتماعيةً قادرةً على فرض خياراتها في الواقع السوري، بما يؤسّس لبلورة مشروع وطني جامع للسوريين، على اختلاف طوائفهم. وعدا عن تمركز اهتمام قوى الثورة في التمظهرات الإعلامية، وتنافسية زعاماتها السياسية في تشكيل ائتلافاتٍ سياسية متنافرة، ظلت هذه القوى أسيرة ارتهانها لأزماتها الداخلية، وتحوّلت، على اختلاف تموضعاتها الفكرية، إلى كومبارس في خلفية المشهد السوري، في حين نجحت القوى الإسلامية في اختزال تمثيلها معارضة نظام بشار الأسد، وهو ما التقطه النظام السوري، ونجح في تسويقه للمجتمع الدولي، باعتبار أن إطاحته ستعني فوضى سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة على السلطة في سورية.
السوريون العالقون في مدينة حلب في انتظار مصيرهم المظلم، أو الذين غادروها تاركين
لم يعد ثمّة ما يمكن التأكيد عليه سوى مأساة حلب، وحقيقة أن ما بعد حلب لن يكون أبداً كما قبلها، ولعل جريمة اغتيال السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، ليست سوى تجلّ لمستوى العنف الذي ستشهده المنطقة مستقبلاً؛ فالواقع الذي أوجدته أحداث حلب المأساوية منعطف حاد في تاريخ الصراع والحروب في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي سيلقي بظلاله على أزمات بلدانٍ أخرى تشهد حروباً هي الأخرى، وأن تلك التداعيات ستتجلى في شكل التوافقات الإقليمية الجائرة التي ستنتهجها الدول المتدخلة في أزمات هذه البلدان وأدواتها المحلية، إضافة إلى ما ولدته آلة القهر الإجرامي للأنظمة المستبدة وحلفائها الدوليين، ليس فقط على من عايش تلك التجربة المريرة من السوريين، وإنما على جميع من هزّته صور الناجين من حلب المدمرة وشهاداتهم، ما يعني استدامة جذور الصراع، وتكريس بنية التشدد الديني، بشقيه السني والشيعي، والذي سيجد متنفساً للتعبير عن ضراوته.