08 نوفمبر 2024
الموصل... حكاية من النوادر
يرقى ما حلّ بمدينة الموصل، منذ دخول تنظيم داعش إليها، والحوادث التي تلت، لأن يكون حكاية، أو حكايا، من النوادر التي يجدر بالجدّات أن يحكينها لأحفادهن قبل النوم، فالغرابة التي بدأت حين أعطى رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، الأوامرَ لخمسين ألف جندي، من جنود الجيش العراقي، بترك مواقعهم وأسلحتهم والانسحاب من المدينة، بسبب هجوم "داعش" عليها، لتصل إلى حين اكتُشِفَ أن عدد المهاجمين لم يتجاوز ثلاثمئة من عناصر التنظيم، ولم تنتهِ الغرابة مع تشكيل الحشد الشعبي لتحرير المدينة التي بدت عصيةً عليه وعلى القوات الأخرى. لكن هناك الغرابة الأكثر إيلاماً لأهل المدينة، وهي عدم مساءلة المالكي بسبب أوامره تلك، علاوة على إبقاء "داعش" يهنأ سنوات في الإقامة فيها وتحويلها إلى قلعةٍ عجِزَت أمامها الجيوش.
ستحكي الجدّات أنه، في يومٍ، أمر ملكُ البلاد جحافلَ جنده بترك المدينة والهروب منها، لأن خطراً كبيراً سيُهلكهم، إن لم يُسلِّموا مفاتيحها ويستسلموا ويهربوا ليَسلَموا بأرواحهم، بدلاً من أن يأمرهم بالدفاع عنها وقهر الغزاة. وستقول الجدّات إن عامة الناس تعجبوا يومها بسبب خوف الملك على جنوده، وجعلهم يستسلمون، وهم القادرون، بكثرة عددهم وعدَّتهم، أن يقهروا الغزاة، القلة بعددهم وعدَّتهم. وسيسألون بعضهم بأصواتٍ منخفضة، حسناً لقد هربوا. لكن، لماذا تركوا الأسلحة والصواريخ والدبابات، لكي يغنمها الغزاة ويقتلنا بها؟ ولماذا لم يزرعوا الألغام في طريقهم، على الأقل؟ وستقول القصص إنه خرج من بين القوم من يقول إن الملك أرسل رسالةً تطمئن أهل المدينة المنكوبة، وتدعوهم إلى ألا يجزعوا، لأنه أمر في الحال بتكوين جيشٍ من المتطوعين لتحريرها. فعاد القوم يتساءلون: لماذا المتطوّعون ما دام لديه الجنود؟ لكنّ
تتوارد هذه القصة، وتلك التساؤلات، المصبوغة بالمرارة، إلى أذهان الجميع، كلما سمعوا أخبار المعارك التي تجري هذه الأيام لاستعادة الموصل. وهي لم تتوقف مع كل ذلك اللغط الذي دار بشأن "الحشد الشعبي" الذي تشكل لتحرير المدينة، وغيرها من المدن من قبضة "داعش"، بدلاً من إيلاء الجيش العراقي الوطني هذه المهمة، وهو الذي صُرفت عليه عشرات مليارات الدولارات، من أجل إعادة بنائه، لكي يدافع عن البلاد، ويكون رمزها ومفخرة لجميع أبنائها. وستبقى هذه القصة تثير الآلام لدى تذكُّرِها في المستقبل. مع العلم أن ما ينتظر المدينة من خرابٍ ستنتج عنه آلامٌ لا تُقارن بآلام سقوط المدينة بتلك السهولة بيد حفنةٍ من عناصر التنظيم.
تفيد كل المعطيات بأن المعارك ستكون قاسية وعنيفة. تدل على ذلك مقاومة التنظيم الهجوم الذي تشنه الجيوش من محاور عدة في المدينة، وفي المدن التي تحيط بها، وصموده أكثر من شهر ونصف. علاوة على حقيقة أن الأمر بات مسألة حياة أو موت بالنسبة لعناصر التنظيم، فلا خيار لديهم سوى الدفاع عن المدينة، حيث لا مكان يهربون إليه في ظل ما يُحضَّر من معركةٍ مماثلةٍ ضدهم في الرقة، وهي المدينة التي جرى الكلام أنها ستكون مقصدهم، بعد إعلان انطلاق معركة الموصل. وكذلك الأمر بالنسبة لدير الزور. ومن هنا، تزداد المخاوف من أن يكون ثمن تحرير المدينة من قبضة التنظيم تدميرها وخرابها، علاوة على تشرد أبنائها، كما جرى من دمار للفلوجة، نتيجة معارك تحريرها من "داعش"، ومن أهلها.
وتبقى القصة الأكثر إيلاماً عدم مساءلة أحدٍ من مُصدري أوامر انسحاب الجيش العراقي من الموصل يومها. فلا المالكي خضع لمحاكمةٍ، ولا حتى أحد من قادة الجيش الذين نقلوا أمره إلى الجنود من دون نقاش، فقد جاءت تعليماتٌ من إيران تفيد بمنع تقديم المالكي للمحاكمة، بعدما أَعلَنت مسؤوليته عن سقوط المدينة لجنةُ تحقيق برلمانية، تشكلت من أجل الوقوف على حيثيات سقوط المدينة. ويعرف الشعب العراقي أن عدم محاكمة المسؤولين يشجع غيرهم على التجاوزات، وهو ما يفعله الحشد الشعبي على هامش معاركه في البلاد، من دون أن يجرؤ أحد على انتقاده أو المطالبة بمساءلة قادته.
حكاية الموصل وسقوطها أكثر الحكايات التي يمكن الخوض فيها وتذكّرها وترداد تفاصيل لامعقوليتها، لكن قصص الفساد الكبرى التي أطاحت اقتصاد العراق توازي قصص سقوط المدينة بتبعاتها المأساوية على الشعب ومستقبل أبنائه. وكما لم يُحاسب أحد في قصة الموصل، لا يحاسب أحد في قصص الفساد، وهي حوافز تعطى للفاسدين، من أجل التوغل أكثر في فسادهم، ومد يدهم إلى مطارح جديدة، بحيث لا يبقى شيء غير مباح لهم على مساحة البلاد.