02 نوفمبر 2024
ما أرادته جريمة بروكسل
في وقتٍ كانت فيه الأجهزة الأمنية الأوروبية مستنفرة، وكانت فيه الشرطة البلجيكية متحفزّة، منتشية بالقبض على صلاح عبد السلام، أحد أبرز العقول المدبرة لهجمات باريس الدامية (13نوفمبر/ تشرين الثاني 2015)، وكان يُظن أن الوضع تحت السيطرة، فاجأ تنظيم "داعش" الجميع، وقام بعملية إرهابية، استباقية صادمة ضربت العمق البلجيكي، وهزّت الضمير الأوروبي والعالمي. فقد استفاقت بروكسل، صباح الثلاثاء 22 مارس/ آذار 2016، على دوي ثلاثة انفجارات متزامنة في مناطق حيوية من العاصمة، اثنان في المطار الدولي زافنتيم، والآخر في محطة أنفاق المترو مالبيك، وأدى ذلك إلى مقتل 34 مدنياً، وجرح 140 آخرين. وبعث الحدث الإرهابي في النفوس حالةً من الهلع، وحالة من الشلل الذي تعطلت معه أغلب المرافق الحيوية، فأغلقت المؤسسات الحكومية والمحلات التجارية أبوابها، ولاذ الناس ببيوتهم يطلبون الطمأنينة، وتوقفت حركة الملاحة الجوية والنقل البري، وتم إجلاء العائلة المالكة من العاصمة، ودخلت البلاد في حالة حداد ثلاثة أيام. وفي المقابل، توالت منشورات أنصار "داعش" على شبكات التواصل الاجتماعي، تهلل لما يسمونه "نصر الله لدولةٍ تكفّل بها الله".
والناظر في مستجدات "غزوة بروكسل" يتبين أنها قامت على تخطيط محكم، وتنفيذ سريع متزامن، واستهدفت أماكن مخصوصة، ورامت بلوغ أهداف محدّدة، ففي مستوى التنفيذ، بدا اختيار الزمان والمكان أمراً غير اعتباطي، فقد جدّت الهجمات في ساعات الصباح الأولى (بين السابعة والتاسعة)، في وقت ذروةٍ يتميز بإقبال الناس على العمل، وقيامهم لقضاء شؤونهم اليومية، وهو توقيتٌ تزدحم فيه الفضاءات المفتوحة للعموم. لذلك، كان التوجه نحو مطار بروكسل الدولي، ونحو محطة المترو في وقتٍ متقاربٍ، لما فيهما من كثافةٍ بشرية، فقد كان المراد إيقاع أكبر عدد من الضحايا، وبث حالة من الرعب والفوضى في المدينة التي تكتسب أهميتها من أنها عاصمة البلاد من ناحية، ومن أنها مقر الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي من ناحية أخرى، وهي رمز سيادة بلجيكا وعمقها الحضاري، وحضورها العسكري باعتبارها عضواً فاعلاً في التحالف الدولي المناهض للإرهاب. وكان القصد من تزامن الهجمات تشتيت الجهد الأمني، وتعديد بؤر الفوضى والرعب، على نحو يُبرز قدرة التنظيم على الاختراق والمباغتة، ويُبرز عجز الأجهزة الأمنية على الإحاطة بتطورات الأحداث الإرهابية الكارثية. والغاية إمعان النكاية بالدولة، الخصم التي يعتبرها التنظيم "دولة كفار"، يجوز فيها القتل، بدعوى أنها تعادي الإسلام والمسلمين.
واستهداف التنظيم الإرهابي بلجيكا يبدو رد فعل فوري على تعاونها النشيط مع الاستخبارات
الفرنسية، ما أدى إلى إطاحة صلاح عبد السلام، أحد أخطر العناصر الإرهابية المطلوبة لدى القضاء الفرنسي. كما يُعتقد أنّ خوف "داعش" من أن يدلي بإفاداتٍ عن مخططات التنظيم، وخلاياه النائمة في أوروبا، عجّل بتنفيذ الهجمات الدامية. يضاف إلى ذلك أن "داعش"، إذ يضرب بروكسل، يرى أنه يضرب أوروبا بحالها، ويضرب الغرب عموماً، بما هو عدو حضاري، ثقافي حامل قيم الحداثة، وبما هو عدو عسكري، وجّه للتنظيم ضربات موجعة، أخيراً، خصوصاً في الرقة، والموصل، وسرت، وصبراطة. فما من شك أن العقل الثأري والسلوك الانتقامي عنصر موجّه للعمل الإرهابي لدى داعش. وجاء في تغريدات بعض أنصار التنظيم على "تويتر" "ضربنا الغربُ في جامعة الموصل، فأخذنا الثأر في بروكسل". كما قال آخر "أصبح للمسلمين دولة تدافع عنهم وتثأر لهم". والملاحظ، هنا، أن "داعش" يزعم أنه يمثّل المسلمين، وينصب نفسه وصياً عليهم، وناطقا باسمهم. وذلك قصد إضفاء شرعية موهومة على الهجوم من ناحية، وقصد استمالة شباب المسلمين، وكسب تعاطفهم، من ناحية أخرى، تمهيدا لاستقطابهم، وإغرائهم بالنفير إلى ما تسمّى "الدولة الإسلامية".
الثابت أن "داعش" كان يريد أيضا إحداث فرقعة إعلامية عابرة للقارات، من خلال عمله الاستعراضي الإرهابي الدامي في بروكسل، فكان أن تصدّر نشرات الأخبار أياماً، فأنسى الناس، ولو إلى حين، إخفاقاته في كوباني، وبنقردان، والرمادي... وهو يريد في نقل وطيس الحرب إلى أوروبا القول إنه مازال حاضراً في المشهد الدولي، وقادراً على إحداث المفاجآت الموجعة "متى شاء، وأينما شاء، وكيفما شاء"، شعاره في ذلك أن "المعركة تشتد والدولة تمتد".
بات واضحا أن "داعش" دشّن جيلاً جديداً من الحروب، تقوم على صراع استنزافي، طويل المدى بين الأجهزة الأمنية للدول وجماعاتٍ لا نظامية، لا مركزية، ذات تنظيم عنقودي، خليوي، بالغ التعقيد، يستقطب شباباً يُقبلون على الموت بدم بارد. والحاجة أكيدة اليوم لبلورة خريطة فكرية/ معلوماتية دولية، لفهم آليات اشتغال هذا التنظيم، وأسباب انتشاره، وسبل وضع حد لمخاطره.
كسب "داعش"، إلى حدّ ما، رهان الظهور الاستعراضي والانتشار الإعلامي. لكنه وضع الجاليات العربية والإسلامية في مرمى اليمين المتطرف، وكرّس صورة ما يسمى الإسلام الجهادي الطارد للآخر، الناشر ثقافة الخوف، والمغذّي رهاب الإسلام، ولأسباب احتدام الصراع الحضاري بين الشرق والغرب.
والناظر في مستجدات "غزوة بروكسل" يتبين أنها قامت على تخطيط محكم، وتنفيذ سريع متزامن، واستهدفت أماكن مخصوصة، ورامت بلوغ أهداف محدّدة، ففي مستوى التنفيذ، بدا اختيار الزمان والمكان أمراً غير اعتباطي، فقد جدّت الهجمات في ساعات الصباح الأولى (بين السابعة والتاسعة)، في وقت ذروةٍ يتميز بإقبال الناس على العمل، وقيامهم لقضاء شؤونهم اليومية، وهو توقيتٌ تزدحم فيه الفضاءات المفتوحة للعموم. لذلك، كان التوجه نحو مطار بروكسل الدولي، ونحو محطة المترو في وقتٍ متقاربٍ، لما فيهما من كثافةٍ بشرية، فقد كان المراد إيقاع أكبر عدد من الضحايا، وبث حالة من الرعب والفوضى في المدينة التي تكتسب أهميتها من أنها عاصمة البلاد من ناحية، ومن أنها مقر الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي من ناحية أخرى، وهي رمز سيادة بلجيكا وعمقها الحضاري، وحضورها العسكري باعتبارها عضواً فاعلاً في التحالف الدولي المناهض للإرهاب. وكان القصد من تزامن الهجمات تشتيت الجهد الأمني، وتعديد بؤر الفوضى والرعب، على نحو يُبرز قدرة التنظيم على الاختراق والمباغتة، ويُبرز عجز الأجهزة الأمنية على الإحاطة بتطورات الأحداث الإرهابية الكارثية. والغاية إمعان النكاية بالدولة، الخصم التي يعتبرها التنظيم "دولة كفار"، يجوز فيها القتل، بدعوى أنها تعادي الإسلام والمسلمين.
واستهداف التنظيم الإرهابي بلجيكا يبدو رد فعل فوري على تعاونها النشيط مع الاستخبارات
الثابت أن "داعش" كان يريد أيضا إحداث فرقعة إعلامية عابرة للقارات، من خلال عمله الاستعراضي الإرهابي الدامي في بروكسل، فكان أن تصدّر نشرات الأخبار أياماً، فأنسى الناس، ولو إلى حين، إخفاقاته في كوباني، وبنقردان، والرمادي... وهو يريد في نقل وطيس الحرب إلى أوروبا القول إنه مازال حاضراً في المشهد الدولي، وقادراً على إحداث المفاجآت الموجعة "متى شاء، وأينما شاء، وكيفما شاء"، شعاره في ذلك أن "المعركة تشتد والدولة تمتد".
بات واضحا أن "داعش" دشّن جيلاً جديداً من الحروب، تقوم على صراع استنزافي، طويل المدى بين الأجهزة الأمنية للدول وجماعاتٍ لا نظامية، لا مركزية، ذات تنظيم عنقودي، خليوي، بالغ التعقيد، يستقطب شباباً يُقبلون على الموت بدم بارد. والحاجة أكيدة اليوم لبلورة خريطة فكرية/ معلوماتية دولية، لفهم آليات اشتغال هذا التنظيم، وأسباب انتشاره، وسبل وضع حد لمخاطره.
كسب "داعش"، إلى حدّ ما، رهان الظهور الاستعراضي والانتشار الإعلامي. لكنه وضع الجاليات العربية والإسلامية في مرمى اليمين المتطرف، وكرّس صورة ما يسمى الإسلام الجهادي الطارد للآخر، الناشر ثقافة الخوف، والمغذّي رهاب الإسلام، ولأسباب احتدام الصراع الحضاري بين الشرق والغرب.