02 نوفمبر 2024
حركة النهضة وسؤال المراجعة النقديّة
يُعدّ مطلب المراجعة من روافد التّجديد المهمة، ومن التحديات الأساسية التي تواجه حركة النهضة، وهي تقبل على عقد مؤتمرها العاشر، ويفترض أن يتمّ تفعيل هذا الخيار على نحو إجرائيّ، ليواكب الحزب مستجدّات الظّرف العمراني التونسي بعد الثورة، فضرورات العمل السياسي السرّي زمن الدكتاتورية تختلف عن مقتضيات العمل في إطار الشرعيّة، وفي زمن الديمقراطية التونسية الوليدة. وقد ساهم ما عاشته الحركة من نفي وإقصاء وتشريد ومحاكمات في عقود سابقة في صياغة الحركة تمثّلات أيديولوجيّة وخيارات تنظيميّة كانت نتاج تلك المرحلة، وهي تحتاج، حاليّاً، إلى مزيد التّشذيب والتّطوير والمراجعة النقديّة، حتّى تنخرط في مسار التّحديث الذاتي، وتتفاعل إيجابيّاً مع مكوّنات المجتمع المدني الذي أنتجته الثورة، والذي يتطلّع إلى قيام دولة جمهوريّة تقدّمية، تقطع مع أسباب الدّولة القامعة، ومع الفكر الواحد وأدعياء امتلاك الحقيقة المطلقة.
والواقع أنّ حركة النّهضة، مع أهمّية الرّصيد النظري الذي قدّمه قادةٌ فيها في سياق تجديد الفكر السّياسي الإسلامي المعاصر، فإنّ نصيب النّقد الذاتي في الأعمال التي وضعها هؤلاء وغيرهم محدود، فعلى الرغم من سبق الحركة في الدّعوة إلى المزاوجة بين الإسلام ومكتسبات الحداثة، وتشريعها لقيام دولة مدنيّة ذات مرجعيّة إسلاميّة، وإقرارها بضرورة التّداول السلمي على السّلطة، وبضرورة إقامة العدالة الاجتماعيّة، وتأمين حقوق المواطنة، ومفارقتها النماذج السلفية التّقليدية في إدارة شؤون الحكم والمجتمع، فإنّها لم تجرؤ بعد على القيام بمراجعات نقديّة عميقة لمنجَزها السياسي الخاصّ نظريّاً وتنظيميّاً، ولم تعبّر صراحة عن التخلّي عن مبادئ أساسيّة توجيهيّة تضمّنتها أدبيّات الحركة لحظة تأسيسها مطلع الثمانينات، فقارئ وثيقة "الرّؤية الفكريّة والمنهج الأصولي لحركة النهضة التونسيّة" الصادر في يونيو/ حزيران 2012، يتبيّن أنّها أبقت على محتوى التصوّر الفكري والعقدي والأصولي الذي أعلنه مؤتمر 1986 لحركة الاتّجاه الإسلامي (النّهضة حاليّا)، بل تمّ اعتبار ذلك البيان "من جملة الوثائق التي تحدّد هويّة الحركة".
وتحتاج تلك الوثيقة إلى عدّة مراجعات، وتستلزم إضافات وتغييرات في مستوى لغتها، ومنهجها، ومضمونها، حتّى تواكب مستجدّات الاجتماع التونسي اليوم، فقد بدا واضعوها متشبّثين بالطّابع العقائدي للحركة، على الرغم من خروجها من جبّة العمل الدّعوي إلى فضاء العمل السياسي، وفيها تقويم لأفعال النّاس من منظور عقديّ أخلاقيّ، وتلبيس للدّيني بالدّنيوي، وتعامل مع المجتمع، بتنويعاته المختلفة، وفق خلفيّة عقائديّة، تستند إلى ثنائية الإيمان والكفر، وهذه معياريّة ميتافيزيقيّة تبقى محلّ خلاف، ولا تتماشى مع الإعلاء من قيمة مبدأ المواطنة، وحرّية الانتماء الفكري والعقدي، باعتباره شأناً شخصيّاً يخصّ المواطن. وعلى الرغم من تسليم الحركة بضرورة اعتماد قراءة مقاصديّة للنصّ التأسيسي، قرآنا وسنّة، فإنّ نصّ الوثيقة "يؤمن بعموميّة الخطاب التشريعي، ولا يرى اختصاص النصّ بأسباب النزول ومناسباته. وبناء على هذا التصوّر، يُفْهَم الخطاب التشريعي خطاباً نافذاً في الزّمان والمكان، ويقتضي الإجراء قطع النّظر عن السّياقات الثقافيّة والاجتماعيّة والحضاريّة التي أنتجته، بحجّة أنّه نصّ شرعي قطعيّ الدّلالة. ومن ثمّة، تبقى هذه الوثيقة التأسيسيّة، على قدر أهمّيتها التاريخيّة، مثار سؤال، إذ ما الجدوى من استمرار التّعويل عليها، خصوصاً أنّها موسومةٌ بالعموم، ولا تقدّم تصوّراً واضحاً لمفهوم الدّولة من منظور الحركة، ولا تخبر بتصوّرها لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتعتبر متأخّرةً عن حركة المجتمع التونسي، وعن سيرورة حركة النهضة نفسها التي لم تُضمّن برنامجها الانتخابي وحملاتها الدعائية بعد الثورة ما يُشير إلى أنّها تسعى إلى إقامة دولة إسلاميةٍ، وأبدت، في ممارستها تجربة الحكم، درجة عالية من المرونة، والانفتاح، والقدرة على التأقلم مع مستجدّات المشهد السياسي التعدّدي، فتآلفت في إدارة البلاد مع علمانيين، ورفضت التنصيص على الشريعة في الدستور، ولم تُصادر الحريات العامّة والخاصّة. بل أقرّت بحرّية الضمير والمساواة بين المرأة والرجل، وسلّمت عمليّاً بثقافة الاختلاف الواسمة للمجتمع التونسي، وهذا التطوّر الإجرائي واكبته ضجّة إعلامية، ووجد ردود فعل آنية إيجابية داخل حركة النهضة وخارجها، ومثّل تجاوزاً نسبياً مهمّاً لمحامل الوثيقة الفكرية الأصولية التقليدية، غير أنّ ذلك التجاوز لم يتحوّل إلى مشروع مراجعةٍ نقديةٍ شاملةٍ للمنجز النظري والأداء السياسي، والهيكل التنظيمي للحركة.
والواقع أنّ حركة النّهضة، مع أهمّية الرّصيد النظري الذي قدّمه قادةٌ فيها في سياق تجديد الفكر السّياسي الإسلامي المعاصر، فإنّ نصيب النّقد الذاتي في الأعمال التي وضعها هؤلاء وغيرهم محدود، فعلى الرغم من سبق الحركة في الدّعوة إلى المزاوجة بين الإسلام ومكتسبات الحداثة، وتشريعها لقيام دولة مدنيّة ذات مرجعيّة إسلاميّة، وإقرارها بضرورة التّداول السلمي على السّلطة، وبضرورة إقامة العدالة الاجتماعيّة، وتأمين حقوق المواطنة، ومفارقتها النماذج السلفية التّقليدية في إدارة شؤون الحكم والمجتمع، فإنّها لم تجرؤ بعد على القيام بمراجعات نقديّة عميقة لمنجَزها السياسي الخاصّ نظريّاً وتنظيميّاً، ولم تعبّر صراحة عن التخلّي عن مبادئ أساسيّة توجيهيّة تضمّنتها أدبيّات الحركة لحظة تأسيسها مطلع الثمانينات، فقارئ وثيقة "الرّؤية الفكريّة والمنهج الأصولي لحركة النهضة التونسيّة" الصادر في يونيو/ حزيران 2012، يتبيّن أنّها أبقت على محتوى التصوّر الفكري والعقدي والأصولي الذي أعلنه مؤتمر 1986 لحركة الاتّجاه الإسلامي (النّهضة حاليّا)، بل تمّ اعتبار ذلك البيان "من جملة الوثائق التي تحدّد هويّة الحركة".
وتحتاج تلك الوثيقة إلى عدّة مراجعات، وتستلزم إضافات وتغييرات في مستوى لغتها، ومنهجها، ومضمونها، حتّى تواكب مستجدّات الاجتماع التونسي اليوم، فقد بدا واضعوها متشبّثين بالطّابع العقائدي للحركة، على الرغم من خروجها من جبّة العمل الدّعوي إلى فضاء العمل السياسي، وفيها تقويم لأفعال النّاس من منظور عقديّ أخلاقيّ، وتلبيس للدّيني بالدّنيوي، وتعامل مع المجتمع، بتنويعاته المختلفة، وفق خلفيّة عقائديّة، تستند إلى ثنائية الإيمان والكفر، وهذه معياريّة ميتافيزيقيّة تبقى محلّ خلاف، ولا تتماشى مع الإعلاء من قيمة مبدأ المواطنة، وحرّية الانتماء الفكري والعقدي، باعتباره شأناً شخصيّاً يخصّ المواطن. وعلى الرغم من تسليم الحركة بضرورة اعتماد قراءة مقاصديّة للنصّ التأسيسي، قرآنا وسنّة، فإنّ نصّ الوثيقة "يؤمن بعموميّة الخطاب التشريعي، ولا يرى اختصاص النصّ بأسباب النزول ومناسباته. وبناء على هذا التصوّر، يُفْهَم الخطاب التشريعي خطاباً نافذاً في الزّمان والمكان، ويقتضي الإجراء قطع النّظر عن السّياقات الثقافيّة والاجتماعيّة والحضاريّة التي أنتجته، بحجّة أنّه نصّ شرعي قطعيّ الدّلالة. ومن ثمّة، تبقى هذه الوثيقة التأسيسيّة، على قدر أهمّيتها التاريخيّة، مثار سؤال، إذ ما الجدوى من استمرار التّعويل عليها، خصوصاً أنّها موسومةٌ بالعموم، ولا تقدّم تصوّراً واضحاً لمفهوم الدّولة من منظور الحركة، ولا تخبر بتصوّرها لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتعتبر متأخّرةً عن حركة المجتمع التونسي، وعن سيرورة حركة النهضة نفسها التي لم تُضمّن برنامجها الانتخابي وحملاتها الدعائية بعد الثورة ما يُشير إلى أنّها تسعى إلى إقامة دولة إسلاميةٍ، وأبدت، في ممارستها تجربة الحكم، درجة عالية من المرونة، والانفتاح، والقدرة على التأقلم مع مستجدّات المشهد السياسي التعدّدي، فتآلفت في إدارة البلاد مع علمانيين، ورفضت التنصيص على الشريعة في الدستور، ولم تُصادر الحريات العامّة والخاصّة. بل أقرّت بحرّية الضمير والمساواة بين المرأة والرجل، وسلّمت عمليّاً بثقافة الاختلاف الواسمة للمجتمع التونسي، وهذا التطوّر الإجرائي واكبته ضجّة إعلامية، ووجد ردود فعل آنية إيجابية داخل حركة النهضة وخارجها، ومثّل تجاوزاً نسبياً مهمّاً لمحامل الوثيقة الفكرية الأصولية التقليدية، غير أنّ ذلك التجاوز لم يتحوّل إلى مشروع مراجعةٍ نقديةٍ شاملةٍ للمنجز النظري والأداء السياسي، والهيكل التنظيمي للحركة.