24 أكتوبر 2024
مؤتمر "النهضة".. من الحركة إلى الحزب
تعقد حركة النهضة التونسية مؤتمرها العاشر هذه الأيام، ما يطرح عليها جملة من المهام والخيارات التي يفرضها الواقع السياسي التونسي المتغير، والمشهد الدولي المتسارع أحداثا وتطورات، ويحيل إلى طرح سؤالٍ عن مدى قدرة الحركة على التكيّف السياسي ومجاوزة خطابها التقليدي المغرق في الطوباوية، والحالم بتأسيس دولةٍ إسلاميةٍ على أنقاض الدولة القائمة، خصوصاً بعد تحوّلها حزباً يشارك في الحكم. وإذا لم يكن مطلوباً من "النهضة" أن تتخلى عن جملةٍ من البنى الإيديولوجية والفكرية التي يصدر عنها جهازها المفاهيمي، وأدوات تحليلها الخطابي، فإن خضوعها لمنطق التغيير والتطوير حاصلٌ لا محالة. وكان المفكر العربي، عزمي بشارة، قد أشار، في محاضرةٍ له، إلى "أنّ الاندماج في العمليّة السياسيّة، واتّباعَ قنوات التعاون والحوار، والتنافسَ مع تياراتٍ سياسيّة أخرى في أطرٍ أوسع، لا بدَّ أن تؤثّر، في النهاية، في الأيديولوجية نفسِها. وهذه هي أبجديات ما تدعى التغذية الراجعة. فالفكرُ والأيديولوجية لا يتغيّران بقرارٍ بل بالتدريج، وفي البراكسيس الاجتماعي والسياسي الملموس نفسه. وكما أنّ الأهداف والظروف تقود إلى اختيار الوسائل، فإنّ الوسائل تؤثّر في مستخدميها أكثرَ ممّا يعتقد هؤلاء المستخدمون". وهو أمر يمكن ملاحظته فعلياً في السياق العام لخطاب حركة النهضة، فما بين مقولات الإسلام السياسي المعتادة التي كانت ترفعها الحركة في الماضي والحديث حاليا عما سماه أحد قادتها "التخصص"، أي بناء حزب سياسي وطني، يختص بالشأن العام والشأن السياسي، ولا علاقة له، من قريب أو بعيد، بالنشاط الدعوي، هناك مسافة.
من أولويات أي حزب يسعى إلى المشاركة في السلطة أن يعيد بناء تصوره لمعنى الدولة والأمة وطبيعة العلاقة مع الشريك السياسي في الوطن الواحد، ويمكن، في هذا السياق، ذكر ما أكد عليه عزمي بشارة أن المطلوب من حركات الإسلام السياسي اليوم (بل وكل القوى السياسية المؤدلجة في المنطقة العربية) أن تنطلق من مسلمتين أساسيتين: الأولى "قضية الإطار المرجعي للأمّة والمواطنة"، بمعنى "أنّ الإطار المرجعي للعمل السياسي الديمقراطي هو الدولة الوطنية التي تشكّل أمّةً غير الأمم الدينيّة والثقافيّة، وغير القومية؛ إنّها أمّةُ المواطنين". ثانياً "تمييزُ الحدود بين الخاصّ والعامّ"، فليس من شأن أي حزب سياسي أن يطارد الحريات الفردية، أو أن يتحول المجال الخاص المتعلق بحياة المواطنين إلى عامل لتعبئة أتباع حزب سياسي معين ضد باقي أفراد المجتمع.
ويمكن القول إن "النهضة" استوعبت، بالفعل، أهمية التحول إلى حزب سياسي يعمل ضمن
الشروط الدستورية، ويعقد التحالفات في إطار المصلحة السياسية، حيث يقر زعيمها، راشد الغنوشي، في حوار صحفي معه بمثل هذه التحولات المركزية، ويقول "لم نعد اليوم في قطيعة مع الدولة، ومشروعنا لم يعد نسفها وإحلال دولة أخرى محلها"، فالتصور السياسي لحركة النهضة اليوم تجاوز مفاهيم تقليدية كثيرة تأسست عليها، مثل الحديث عن الدولة الإسلامية ومحاربة التغريب وأسلمة المجتمع، لتتحول إلى حزب سياسي، أقصى طموحه تقديم حلول فعلية وواقعية للمشكلات التي تعانيها البلاد.كما طورت "النهضة" خطابها في ما يخص تعاملها مع الآخر السياسي، حيث لم يعد منطق الخصومة الإيديولوجية الأساس الذي تقوم عليه علاقتها مع القوى الأخرى، ليحل محله منطق التعاون والتحالف، من خلال مقتضيات سياسية، تفرضها المصلحة وطبيعة المرحلة.
وإجمالاً، فإن خطاب حركة النهضة، ونمط ممارساتها الحزبية، عرفا تطوراتٍ كبرى، لا يمكن إنكارها، غير أن الهوة تظل قائمةً بين النصوص التأسيسية للحركة وواقع ممارستها السياسية بعد الثورة، بشكلٍ يفرض عليها مراجعة هذه النصوص وتحيينها، لتتماشى مع نمط ممارستها السياسية الحالية (ما يُفترض أن يتم في المؤتمر الحالي)، كما يمكن ملاحظة مدى التفاوت بين قيادات التنظيم (بعضها على الأقل)، والتي تسعى إلى تحويل الحركة إلى حزب سياسي مدني، ذي مرجعية أخلاقية إسلامية، وبين قواعدها الشعبية التي لازالت لم تدرك عمق التغير الحاصل في صلب حركتها السياسية، وربما اعتبر بعضهم مثل هذه المواقف من قبيل التكتيك السياسي، وليس تعبيراً عن تحولاتٍ فعليةٍ، تقوم بها الحركة. ويمكن القول إن الواقع السياسي التونسي المتغير، وطبيعة التحالفات التي عقدتها "النهضة"، كان لهما دور أساسي في تطوير المفردات السياسية للحركة، بالإضافة إلى عوامل خارجية إقليمية ودولية، ليس أقلها فشل قوى الإسلام السياسي الشبيهة في الدول العربية الأخرى، في تصريف أزماتها السياسية المحلية، وفي الحفاظ على كياناتها الحزبية، مضافاً إلى هذا كله ما لعبه النموذج التركي المغري من تأثير على حركة النهضة، من جهة أن حزب العدالة والتنمية التركي يخوض اللعبة السياسية، ويحصد النجاحات المتتالية في الحكم، من دون أن يكون تياراً إسلامياً معلناً مكتفياً فحسب بالتأكيد على القيم الإسلامية العامة والمنظومة الأخلاقية، حيث بين أن المسألة الشكلية غير ذات موضوع في العمل السياسي الناجح والناجع.
ومع الإقرار بكل هذه التطورات في الممارسة السياسية لدى قيادة حركة النهضة، يظل التحدّي قائماً في بناء تأسيس نظري مناسب لهذه الممارسات، وإقناع القواعد به، والتحول من منطق الحركة الإسلامية التي تتبنى تصوراً تمامياً أصولياً للإسلام إلى حزب سياسي، يتفاعل مع الواقع، ويسعى إلى تقديم الحلول المناسبة، من خلال المشاركة السياسية والعمل الحزبي المنظم.
من أولويات أي حزب يسعى إلى المشاركة في السلطة أن يعيد بناء تصوره لمعنى الدولة والأمة وطبيعة العلاقة مع الشريك السياسي في الوطن الواحد، ويمكن، في هذا السياق، ذكر ما أكد عليه عزمي بشارة أن المطلوب من حركات الإسلام السياسي اليوم (بل وكل القوى السياسية المؤدلجة في المنطقة العربية) أن تنطلق من مسلمتين أساسيتين: الأولى "قضية الإطار المرجعي للأمّة والمواطنة"، بمعنى "أنّ الإطار المرجعي للعمل السياسي الديمقراطي هو الدولة الوطنية التي تشكّل أمّةً غير الأمم الدينيّة والثقافيّة، وغير القومية؛ إنّها أمّةُ المواطنين". ثانياً "تمييزُ الحدود بين الخاصّ والعامّ"، فليس من شأن أي حزب سياسي أن يطارد الحريات الفردية، أو أن يتحول المجال الخاص المتعلق بحياة المواطنين إلى عامل لتعبئة أتباع حزب سياسي معين ضد باقي أفراد المجتمع.
ويمكن القول إن "النهضة" استوعبت، بالفعل، أهمية التحول إلى حزب سياسي يعمل ضمن
وإجمالاً، فإن خطاب حركة النهضة، ونمط ممارساتها الحزبية، عرفا تطوراتٍ كبرى، لا يمكن إنكارها، غير أن الهوة تظل قائمةً بين النصوص التأسيسية للحركة وواقع ممارستها السياسية بعد الثورة، بشكلٍ يفرض عليها مراجعة هذه النصوص وتحيينها، لتتماشى مع نمط ممارستها السياسية الحالية (ما يُفترض أن يتم في المؤتمر الحالي)، كما يمكن ملاحظة مدى التفاوت بين قيادات التنظيم (بعضها على الأقل)، والتي تسعى إلى تحويل الحركة إلى حزب سياسي مدني، ذي مرجعية أخلاقية إسلامية، وبين قواعدها الشعبية التي لازالت لم تدرك عمق التغير الحاصل في صلب حركتها السياسية، وربما اعتبر بعضهم مثل هذه المواقف من قبيل التكتيك السياسي، وليس تعبيراً عن تحولاتٍ فعليةٍ، تقوم بها الحركة. ويمكن القول إن الواقع السياسي التونسي المتغير، وطبيعة التحالفات التي عقدتها "النهضة"، كان لهما دور أساسي في تطوير المفردات السياسية للحركة، بالإضافة إلى عوامل خارجية إقليمية ودولية، ليس أقلها فشل قوى الإسلام السياسي الشبيهة في الدول العربية الأخرى، في تصريف أزماتها السياسية المحلية، وفي الحفاظ على كياناتها الحزبية، مضافاً إلى هذا كله ما لعبه النموذج التركي المغري من تأثير على حركة النهضة، من جهة أن حزب العدالة والتنمية التركي يخوض اللعبة السياسية، ويحصد النجاحات المتتالية في الحكم، من دون أن يكون تياراً إسلامياً معلناً مكتفياً فحسب بالتأكيد على القيم الإسلامية العامة والمنظومة الأخلاقية، حيث بين أن المسألة الشكلية غير ذات موضوع في العمل السياسي الناجح والناجع.
ومع الإقرار بكل هذه التطورات في الممارسة السياسية لدى قيادة حركة النهضة، يظل التحدّي قائماً في بناء تأسيس نظري مناسب لهذه الممارسات، وإقناع القواعد به، والتحول من منطق الحركة الإسلامية التي تتبنى تصوراً تمامياً أصولياً للإسلام إلى حزب سياسي، يتفاعل مع الواقع، ويسعى إلى تقديم الحلول المناسبة، من خلال المشاركة السياسية والعمل الحزبي المنظم.