09 نوفمبر 2024
نقاوم بالفوضى ... انطباعات
زرتُ فلسطين، قبل أيام، للمرة الأولى، وأتيح لي الدخول إلى الأراضي المحتلة في 1948، فضلاً عن الضفة الغربية، وقد سرّني أن بين أفراد الشعب الفلسطيني أخلاقاً حميدة ما تزال موروثة من عهد الانتفاضة الأولى، أهمها التعامل الودّي فيما بينهم، والتعامل الراقي مع الإناث.
ولم يسرّني أن ثمة فوضى في الحياة اليومية في المدن الفلسطينية الخاضعة للسلطة الوطنية، تجعل من غير المفهوم كيف يمكن لشعبٍ محتل أن يقاوم، من أجل حقوقه، محتلاً يفرض نظاماً صارماً على الحياة اليومية في الأراضي التي يسيطر عليها: كيف يمكن للفوضى أن تناطح النظام؟
الحال الفلسطيني هو نفسه الحال العربي عموماً، وكأننا لا نعرف أن أول المقاومة، وأول التحضّر، وأول الدخول في التاريخ، هو إحلال النظام العام محل الفوضى، ولا فرق في ذاك بين شعوبٍ عربيةٍ تتذمر لتأخرها الحضاري وأخرى تتذمر لخضوعها للاحتلال.
جوهر القضية أن "منظومة الأخلاق" التي تتحكّم بمجتمعاتنا العربية المعاصرة، ما تزال تركّز على ما هو خاص في حياة أفرادها، ولا تلتفت كثيراً إلى ما هو عام. فتلك المنظومة الأخلاقية تتحكّم بسلوك الفرد في حياته الخاصة؛ إذ تتدخل في لباسه وهندامه، وطعامه وشرابه، وخصوصياته اليومية، وتمنح الآخرين حقّ مراقبتها والتعليق عليها، ومن ثم تقرير مدى "أخلاقية" المرء من عدم أخلاقيته. لكن هذه المنظومة لا تبدو معنيةً بسلوك الفرد في الحياة العامة، تجاه الآخرين وتجاه المجتمع الذي يعيش فيه؛ فلا يُضيره أن يوقف سيارته في وسط الطريق معطلاً حركة السير، أو أن يلقي القمامة في الشارع العام، أو أن يكسر مقعداً في الحديقة العامة، إذ لن يقول عنه أحد ساعتها إنه بلا أخلاق!
هذه "المنظومة" هي التي جعلت الجرأة على المال العام، في بلاد عربيةٍ عديدة، بمثابة "بطولة"؛ فما هو عام مستباح، ما دام المرء يلبس ويأكل ويتصرّف كما يقرّر المجتمع، وفق "العادات والتقاليد والأعراف" التي ليس منها احترام القانون، وحماية المال العام والممتلكات العامة من التخريب أو الهدر، بما فيها من ماء وكهرباء وطاقة، فتلك مفاهيم طارئة، قياساً إلى ما هو معمول به من منظومةٍ أخلاقية، محورها السلوك الفردي في الحياة الخاصة. حتى ما هو مشتق من الدين في هذه المنظومة الأخلاقية يتناسى ما قرّره الدين من أخلاق تجاه المجتمع، ويركز على ما هو فردي. فهو يقرر أن على المرء أن يصلي ويصوم ليعتبر فاضلاً، حتى لو أزاح الأوساخ من شرفة بيته إلى شرفة جاره في الطابق الذي يليه. ولن يكون فاضلاً إن ترفّق مع جاره، وتعامل بالفضيلة مع الناس، إن لم يكن يصلي ويصوم. هكذا تتناسى تلك المنظومة الأخلاقية أن المسائل الفردية في الدين هي علاقة بين المرء وربه، فيما أن المسائل العامة التي تجعل "الدين المعاملة" هي علاقة بين المرء والناس، فما الذي يستفيده المجتمع، لو أصلح واحدُنا علاقته مع ربه، وأفسد علاقته بالناس: كالتاجر الذي يصوم ويصلي، لكنه يغش؟
ما دامت هذه حال منظومتنا الأخلاقية، التي توجّه ثقافتنا وحياتنا اليومية، فهل يكون غريباً أن لا يجد "الهمّ العام" جمهوراً ومتطوعين؟ هل يكون غريباً أن لا ينضوي الناس، على سبيل المثال لا الحصر، في الجمعيات الأهلية التي هي مؤسسات "عامة"، إن لم يضمنوا منها مكاسب فردية "خاصة"؟ وهل يكون غريباً ما تفعله عديد من جمعيات إعانة وإغاثة الفقراء والأيتام التي تنشط في مواقع معينة، لتصير خزّاناً انتخابياً لها، أو كما تفعل هيئاتٌ تتبنى قضايا المرأة وحقوق الإنسان والديمقراطية، لتحصل بحجتها على "تمويل أجنبي"، تجني منه ربحاً وفيراً!
المسائل مترابطة إذن: إذا أردنا شعوباً قادرة على المقاومة، كما فعل الشعب الفلسطيني في انتفاضته الأولى، كما قال لي فلسطينيون عديدون من شهودها، أو إذا أردنا دولاً من المواطنين، يتصرّفون على أساس أداء الواجبات والحصول على الحقوق، في مظلةٍ من القانون والمؤسسية، فعلينا أولاً أن نكرّس منظومة قيمية تحكم على مدى أخلاقية المرء في ضوء سلوكه تجاه الآخرين، وتجاه ما هو عام ومشترك بين الناس، لا في ضوء حياته الخاصة وسلوكه تجاه ذاته.
ولم يسرّني أن ثمة فوضى في الحياة اليومية في المدن الفلسطينية الخاضعة للسلطة الوطنية، تجعل من غير المفهوم كيف يمكن لشعبٍ محتل أن يقاوم، من أجل حقوقه، محتلاً يفرض نظاماً صارماً على الحياة اليومية في الأراضي التي يسيطر عليها: كيف يمكن للفوضى أن تناطح النظام؟
الحال الفلسطيني هو نفسه الحال العربي عموماً، وكأننا لا نعرف أن أول المقاومة، وأول التحضّر، وأول الدخول في التاريخ، هو إحلال النظام العام محل الفوضى، ولا فرق في ذاك بين شعوبٍ عربيةٍ تتذمر لتأخرها الحضاري وأخرى تتذمر لخضوعها للاحتلال.
جوهر القضية أن "منظومة الأخلاق" التي تتحكّم بمجتمعاتنا العربية المعاصرة، ما تزال تركّز على ما هو خاص في حياة أفرادها، ولا تلتفت كثيراً إلى ما هو عام. فتلك المنظومة الأخلاقية تتحكّم بسلوك الفرد في حياته الخاصة؛ إذ تتدخل في لباسه وهندامه، وطعامه وشرابه، وخصوصياته اليومية، وتمنح الآخرين حقّ مراقبتها والتعليق عليها، ومن ثم تقرير مدى "أخلاقية" المرء من عدم أخلاقيته. لكن هذه المنظومة لا تبدو معنيةً بسلوك الفرد في الحياة العامة، تجاه الآخرين وتجاه المجتمع الذي يعيش فيه؛ فلا يُضيره أن يوقف سيارته في وسط الطريق معطلاً حركة السير، أو أن يلقي القمامة في الشارع العام، أو أن يكسر مقعداً في الحديقة العامة، إذ لن يقول عنه أحد ساعتها إنه بلا أخلاق!
هذه "المنظومة" هي التي جعلت الجرأة على المال العام، في بلاد عربيةٍ عديدة، بمثابة "بطولة"؛ فما هو عام مستباح، ما دام المرء يلبس ويأكل ويتصرّف كما يقرّر المجتمع، وفق "العادات والتقاليد والأعراف" التي ليس منها احترام القانون، وحماية المال العام والممتلكات العامة من التخريب أو الهدر، بما فيها من ماء وكهرباء وطاقة، فتلك مفاهيم طارئة، قياساً إلى ما هو معمول به من منظومةٍ أخلاقية، محورها السلوك الفردي في الحياة الخاصة. حتى ما هو مشتق من الدين في هذه المنظومة الأخلاقية يتناسى ما قرّره الدين من أخلاق تجاه المجتمع، ويركز على ما هو فردي. فهو يقرر أن على المرء أن يصلي ويصوم ليعتبر فاضلاً، حتى لو أزاح الأوساخ من شرفة بيته إلى شرفة جاره في الطابق الذي يليه. ولن يكون فاضلاً إن ترفّق مع جاره، وتعامل بالفضيلة مع الناس، إن لم يكن يصلي ويصوم. هكذا تتناسى تلك المنظومة الأخلاقية أن المسائل الفردية في الدين هي علاقة بين المرء وربه، فيما أن المسائل العامة التي تجعل "الدين المعاملة" هي علاقة بين المرء والناس، فما الذي يستفيده المجتمع، لو أصلح واحدُنا علاقته مع ربه، وأفسد علاقته بالناس: كالتاجر الذي يصوم ويصلي، لكنه يغش؟
ما دامت هذه حال منظومتنا الأخلاقية، التي توجّه ثقافتنا وحياتنا اليومية، فهل يكون غريباً أن لا يجد "الهمّ العام" جمهوراً ومتطوعين؟ هل يكون غريباً أن لا ينضوي الناس، على سبيل المثال لا الحصر، في الجمعيات الأهلية التي هي مؤسسات "عامة"، إن لم يضمنوا منها مكاسب فردية "خاصة"؟ وهل يكون غريباً ما تفعله عديد من جمعيات إعانة وإغاثة الفقراء والأيتام التي تنشط في مواقع معينة، لتصير خزّاناً انتخابياً لها، أو كما تفعل هيئاتٌ تتبنى قضايا المرأة وحقوق الإنسان والديمقراطية، لتحصل بحجتها على "تمويل أجنبي"، تجني منه ربحاً وفيراً!
المسائل مترابطة إذن: إذا أردنا شعوباً قادرة على المقاومة، كما فعل الشعب الفلسطيني في انتفاضته الأولى، كما قال لي فلسطينيون عديدون من شهودها، أو إذا أردنا دولاً من المواطنين، يتصرّفون على أساس أداء الواجبات والحصول على الحقوق، في مظلةٍ من القانون والمؤسسية، فعلينا أولاً أن نكرّس منظومة قيمية تحكم على مدى أخلاقية المرء في ضوء سلوكه تجاه الآخرين، وتجاه ما هو عام ومشترك بين الناس، لا في ضوء حياته الخاصة وسلوكه تجاه ذاته.