09 يونيو 2023
قانون العمل الفرنسي مثال لصراعٍ عبر العالم
يطرح الصراع المحتدم بقوة في فرنسا، منذ أيام، حول إصدار قانون العمل الفرنسي الجديد، نقاشاً جوهرياً بشأن السياسات الاقتصادية في البلدان المتقدمة، وليس على مستوى الاقتصاد الفرنسي وحسب (سياسات أسواق العمل، السياسات التجارية، السياسات الضريبية وغيرها). وهذا الصراع اليوم هو استمرار لصراع أبدي بين العمل ورأس المال، والذي احتدم مطلع ثمانينيات القرن العشرين، واستهدف تقليص شبكة الضمان الاجتماعي، والمكاسب التي حققتها قوة العمل في خمسينيات القرن العشرين وستينياته بخاصة.
يقلص القانون الجديد الحقوق والمزايا للمشتغلين، ويضعف موقفهم التفاوضي مع أرباب العمل، فهو ينص على وضع سقفٍ للتعويضات التي يصرفها رب العمل للعامل، عند التسريح التعسفي، أو التسريح لأسباب اقتصادية مبرّرة (ركود أعمال الشركة)، بأقل مما تمنحه المحاكم حالياً، ويمنح رب العمل مرونةً أكبر في تسريح العامل، عند تراجع فرع الشركة الذي يعمل فيه العامل بضعة شهور، بينما تعترض النقابات على ذلك، إذا كان فرع الشركة فرعاً لشركة كبرى، تجني أرباحاً كبيرةً من فروعٍ أخرى، ويتيح القانون للشركات الصغرى مناقشة رفع ساعات العمل مع كل عامل على انفراد، وهو ما ترفضه النقابات، لأنه طريقة لزيادة ساعات العمل، وينص القانون على تخفيض زيادة أجر ساعات العمل الإضافي الذي يتقاضاه العامل، علاوة على أجر الساعة الأساسي، وذلك من 25% إلى 10% من أجر الساعة. وترفض النقابات نص قانون العمل الجديد على حق الشركة بطرد العامل الذي يرفض الالتزام باتفاقٍ بين رب العمل والنقابة على زيادة ساعات العمل، والنظر في التعويضات، لتلبية طلبات الزبائن، وترى فيه طريقةً لزيادة ساعات العمل، وتخفيض تعويضاتها وغيرها.
تبدو المعركة في فرنسا مرشحةً للتصعيد، فالحكومة تصر على إصدار قانون العمل الجديد المختلف عليه، وتنوي تمريره عبر الحكومة، من دون المرور على البرلمان، لتجنب الصراع حوله، واحتمال عدم الموافقة عليه. ويرحب قطاع الأعمال الفرنسي بالقانون الجديد، ويضغط على الحكومة لتمريره، لأنه يخفض مزايا قوة العمل، ويقلص تكاليف الإنتاج، ويرفع القدرة التنافسية للشركات، بينما يعارضه النقابيون، فهم حريصون على مستويات أجورهم وتعويضاتهم، وحماية أماكن عملهم. وتجتاح فرنسا مظاهرات واسعة نسبياً، وتستعد النقابة الكبرى في فرنسا "السيه جيه تيه"، لخوض معركةٍ مع الحكومة وأرباب العمل بشأن هذا القانون.
يضع انفتاح الاقتصاد العالمي، وانفتاح التجارة وانفتاح الأسواق وتحرير الاستثمارات، المنتجين
في البلدان المتقدمة أمام منافسةٍ حادة مع منتجين صاعدين في العالم الثالث، وخصوصاً الصين والهند بأعدادهما الهائلة، إذ تشكلان نحو ثلث سكان البشرية، وتنموان بقوة وبمعدلات مرتفعة، تقارب الآن الـ 7%، وتضخان في الأسواق العالمية منتجاتٍ منافسةً بأسعار رخيصة.
في السابق، كان ثمة تقسيم عمل يناسب مصالح الدول المتقدمة، فالأخيرة، خصوصاً منذ سبعينيات القرن العشرين، تخلت عن الصناعات الكثيفة العمالة والملوثة للبيئة، وتركتها للعالم الثالث، وخصوصاً الصين، كما تخلت عن الخدمات للهند. وفي المقابل، اختصت الدول المتقدمة بصناعات كثيفة رأس المال، وذات تقنية وجودة عاليتين، وتحقق أرباحاً كبيرة، على الرغم من ارتفاع مستويات أجورها، ومعدلات ضرائبها، وبقيت تقبض على حلقات البحث والتطوير والتصاميم والعلامات التجارية، وبقية مكونات الملكية الفكرية.
لكن تلك الدول استطاعت كسر هذا التقسيم، إذ استطاعت الصين إدخال الشركات العالمية في منافسة للقدوم إليها (اذهب إلى الصين أو ستغلق منشأتك). وفي البداية، بدأت شركات الدول المتقدمة تنقل مصانعها ومواقع إنتاجها للسلع العالية التقنية، وحتى مراكز بحثها، إلى الصين، ونقلت جزءاً كبيراً من خدماتها إلى الهند، من أجل خفض تكاليفها والتغلب على منافسيها، وقد أتاح هذا للصين والهند أن تطوّرا قدراتهما العلمية والتقنية، وتنميا قدراتهما الإنتاجية الخاصة بهما، وتصعدا في سلم التصنيع والإنتاج، لتنتجا سلعاً تنافس منتجات الدول المتقدمة، سواء صناعية كهرو-ميكانيكية أم إلكترونية، ما أثر كثيراً، وسيؤثر أكثر، على إنتاج الشركات في الدول المتقدمة. ومن وجهة نظر المشتغلين وفرص عملهم، لا فرق إن كانت الشركة الأوروبية أو الفرنسية نفسها (طومسون، الكاتيل، بيجو، رينو وغيرها) تنتج في الصين منتجات بعلامة تجارية فرنسية، أم كانت الشركات الصينية تنتج منتجات منافسة بعلامة تجارية صينية أو هندية، فالأمر سيان بالنسبة لهم، لأن فرص العمل تنتقل إلى الصين أو الهند أو غيرها.
سيُحدث هذا الوضع في الاقتصاد العالمي مزيداً من الضغوط على صانع سياسات سوق العمل والسياسات الاقتصادية والتجارية والضريبية وغيرها، في أميركا وأوروبا واليابان، ويصبح التحدي هو بين: تقليص شبكات الضمان الاجتماعي وتقليص مزايا العمل، بما يخفض التكاليف، ويرفع القدرة التنافسية للشركات، من أجل الحفاظ على فرص العمل، وإيجاد فرص عمل جديدة في هذه البلدان المتقدمة، وبين الحفاظ على مستويات الأجور والمزايا والحماية وبقية مكونات شبكة الضمان الاجتماعي، ما يعني فقدان فرص العمل، بسبب نقل الشركات ومصانعها إلى دول مثل الصين والهند. ولن يكون الخيار سهلاً، وهذا ما نراه اليوم في فرنسا.
يزداد صنع السياسات الاقتصادية تعقيداً وصعوبةً، عندما تقدم تلك الدول، مثل الصين والهند، مزايا أخرى عديدة للمستثمرين، مثل مستويات ضريبية أدنى ونقابات ضعيفة، وتتساهل بمسألة تلويث البيئة والرشوة وتشغيل الأطفال وساعات العمل الطويلة، إضافة إلى الأجور المنخفضة وغيرها من جوانب تسهل ممارسة الأعمال وتخفض التكاليف وتزيد الأرباح، ما يغري رأس المال بمغادرة البلدان المتقدمة بمستويات أجورها المرتفعة وبسياساتها الشديدة في سوق العمل، وضرائبها المرتفعة، وقوانينها الشديدة لحماية البيئة وتحويل الأموال، والذهاب إلى الصين والهند وغيرهما، فما يهم رأس المال، في النهاية، هو الربح.
يضع هذا كله صانع السياسات الاقتصادية وسياسات سوق العمل والسياسات التجارية والضريبية، وغيرها من سياساتٍ أمام تحدٍ وخيارات صعبة في بلدانٍ تعاني من معدلات بطالة مرتفعة، وهي، في فرنسا، بحدود عشرة في المائة منذ عقدين.
مع ارتفاع القدرة العلمية والتقنية للهند والصين، خصوصاً، وارتفاع قدرتهما على إنتاج سلع منافسة، يتوقع أن تتسع الضغوط، وتتسع الصراعات داخل البلدان المتقدمة نفسها، ويتوقع ان يؤدي هذا إلى مطالبات بالعودة عن سياسات تحرير تجارة السلع والخدمات ورؤوس الأموال، والعودة إلى سياسات الحماية من جهة، والضغط من جهة أخرى، لفرض اتفاقيات ملزمة للصين والهند، وغيرهما من دول العالم الثالث، لاتباع السياسات نفسها في قضايا حماية البيئة وتشغيل الأطفال ومستويات الضرائب ومكافحة الفساد وغيرها، لإيجاد ظروف منافسةٍ عادلة، غير أن هذا الفرض لن يكون ميسراً بسهولة، وكذلك من الصعب إلزام الشركات الكبرى الأوروبية والأميركية التي تستثمر في الصين الالتزام بسياساتٍ جديدةٍ وطنيةٍ، تقلص معدلات أرباحها، فحين تتعارض الوطنية مع الربح، سينحاز قطاع الأعمال إلى الربح.
تستعد الصين لأية احتمالات تغيير في السياسات الاقتصادية في الدول الكبرى، وتعمل باجتهاد لتطوير وجودها في اسواق آسيا وأفريقيا، وحتى أميركا اللاتينية، لتكون بديلاً عن أسواق أوروبا وأميركا مستقبلاً.
هل ستقود هذه الصراعات إلى أنماط جديدة من السياسات الاقتصادية مستقبلاً؟
يقلص القانون الجديد الحقوق والمزايا للمشتغلين، ويضعف موقفهم التفاوضي مع أرباب العمل، فهو ينص على وضع سقفٍ للتعويضات التي يصرفها رب العمل للعامل، عند التسريح التعسفي، أو التسريح لأسباب اقتصادية مبرّرة (ركود أعمال الشركة)، بأقل مما تمنحه المحاكم حالياً، ويمنح رب العمل مرونةً أكبر في تسريح العامل، عند تراجع فرع الشركة الذي يعمل فيه العامل بضعة شهور، بينما تعترض النقابات على ذلك، إذا كان فرع الشركة فرعاً لشركة كبرى، تجني أرباحاً كبيرةً من فروعٍ أخرى، ويتيح القانون للشركات الصغرى مناقشة رفع ساعات العمل مع كل عامل على انفراد، وهو ما ترفضه النقابات، لأنه طريقة لزيادة ساعات العمل، وينص القانون على تخفيض زيادة أجر ساعات العمل الإضافي الذي يتقاضاه العامل، علاوة على أجر الساعة الأساسي، وذلك من 25% إلى 10% من أجر الساعة. وترفض النقابات نص قانون العمل الجديد على حق الشركة بطرد العامل الذي يرفض الالتزام باتفاقٍ بين رب العمل والنقابة على زيادة ساعات العمل، والنظر في التعويضات، لتلبية طلبات الزبائن، وترى فيه طريقةً لزيادة ساعات العمل، وتخفيض تعويضاتها وغيرها.
تبدو المعركة في فرنسا مرشحةً للتصعيد، فالحكومة تصر على إصدار قانون العمل الجديد المختلف عليه، وتنوي تمريره عبر الحكومة، من دون المرور على البرلمان، لتجنب الصراع حوله، واحتمال عدم الموافقة عليه. ويرحب قطاع الأعمال الفرنسي بالقانون الجديد، ويضغط على الحكومة لتمريره، لأنه يخفض مزايا قوة العمل، ويقلص تكاليف الإنتاج، ويرفع القدرة التنافسية للشركات، بينما يعارضه النقابيون، فهم حريصون على مستويات أجورهم وتعويضاتهم، وحماية أماكن عملهم. وتجتاح فرنسا مظاهرات واسعة نسبياً، وتستعد النقابة الكبرى في فرنسا "السيه جيه تيه"، لخوض معركةٍ مع الحكومة وأرباب العمل بشأن هذا القانون.
يضع انفتاح الاقتصاد العالمي، وانفتاح التجارة وانفتاح الأسواق وتحرير الاستثمارات، المنتجين
في السابق، كان ثمة تقسيم عمل يناسب مصالح الدول المتقدمة، فالأخيرة، خصوصاً منذ سبعينيات القرن العشرين، تخلت عن الصناعات الكثيفة العمالة والملوثة للبيئة، وتركتها للعالم الثالث، وخصوصاً الصين، كما تخلت عن الخدمات للهند. وفي المقابل، اختصت الدول المتقدمة بصناعات كثيفة رأس المال، وذات تقنية وجودة عاليتين، وتحقق أرباحاً كبيرة، على الرغم من ارتفاع مستويات أجورها، ومعدلات ضرائبها، وبقيت تقبض على حلقات البحث والتطوير والتصاميم والعلامات التجارية، وبقية مكونات الملكية الفكرية.
لكن تلك الدول استطاعت كسر هذا التقسيم، إذ استطاعت الصين إدخال الشركات العالمية في منافسة للقدوم إليها (اذهب إلى الصين أو ستغلق منشأتك). وفي البداية، بدأت شركات الدول المتقدمة تنقل مصانعها ومواقع إنتاجها للسلع العالية التقنية، وحتى مراكز بحثها، إلى الصين، ونقلت جزءاً كبيراً من خدماتها إلى الهند، من أجل خفض تكاليفها والتغلب على منافسيها، وقد أتاح هذا للصين والهند أن تطوّرا قدراتهما العلمية والتقنية، وتنميا قدراتهما الإنتاجية الخاصة بهما، وتصعدا في سلم التصنيع والإنتاج، لتنتجا سلعاً تنافس منتجات الدول المتقدمة، سواء صناعية كهرو-ميكانيكية أم إلكترونية، ما أثر كثيراً، وسيؤثر أكثر، على إنتاج الشركات في الدول المتقدمة. ومن وجهة نظر المشتغلين وفرص عملهم، لا فرق إن كانت الشركة الأوروبية أو الفرنسية نفسها (طومسون، الكاتيل، بيجو، رينو وغيرها) تنتج في الصين منتجات بعلامة تجارية فرنسية، أم كانت الشركات الصينية تنتج منتجات منافسة بعلامة تجارية صينية أو هندية، فالأمر سيان بالنسبة لهم، لأن فرص العمل تنتقل إلى الصين أو الهند أو غيرها.
سيُحدث هذا الوضع في الاقتصاد العالمي مزيداً من الضغوط على صانع سياسات سوق العمل والسياسات الاقتصادية والتجارية والضريبية وغيرها، في أميركا وأوروبا واليابان، ويصبح التحدي هو بين: تقليص شبكات الضمان الاجتماعي وتقليص مزايا العمل، بما يخفض التكاليف، ويرفع القدرة التنافسية للشركات، من أجل الحفاظ على فرص العمل، وإيجاد فرص عمل جديدة في هذه البلدان المتقدمة، وبين الحفاظ على مستويات الأجور والمزايا والحماية وبقية مكونات شبكة الضمان الاجتماعي، ما يعني فقدان فرص العمل، بسبب نقل الشركات ومصانعها إلى دول مثل الصين والهند. ولن يكون الخيار سهلاً، وهذا ما نراه اليوم في فرنسا.
يزداد صنع السياسات الاقتصادية تعقيداً وصعوبةً، عندما تقدم تلك الدول، مثل الصين والهند، مزايا أخرى عديدة للمستثمرين، مثل مستويات ضريبية أدنى ونقابات ضعيفة، وتتساهل بمسألة تلويث البيئة والرشوة وتشغيل الأطفال وساعات العمل الطويلة، إضافة إلى الأجور المنخفضة وغيرها من جوانب تسهل ممارسة الأعمال وتخفض التكاليف وتزيد الأرباح، ما يغري رأس المال بمغادرة البلدان المتقدمة بمستويات أجورها المرتفعة وبسياساتها الشديدة في سوق العمل، وضرائبها المرتفعة، وقوانينها الشديدة لحماية البيئة وتحويل الأموال، والذهاب إلى الصين والهند وغيرهما، فما يهم رأس المال، في النهاية، هو الربح.
يضع هذا كله صانع السياسات الاقتصادية وسياسات سوق العمل والسياسات التجارية والضريبية، وغيرها من سياساتٍ أمام تحدٍ وخيارات صعبة في بلدانٍ تعاني من معدلات بطالة مرتفعة، وهي، في فرنسا، بحدود عشرة في المائة منذ عقدين.
مع ارتفاع القدرة العلمية والتقنية للهند والصين، خصوصاً، وارتفاع قدرتهما على إنتاج سلع منافسة، يتوقع أن تتسع الضغوط، وتتسع الصراعات داخل البلدان المتقدمة نفسها، ويتوقع ان يؤدي هذا إلى مطالبات بالعودة عن سياسات تحرير تجارة السلع والخدمات ورؤوس الأموال، والعودة إلى سياسات الحماية من جهة، والضغط من جهة أخرى، لفرض اتفاقيات ملزمة للصين والهند، وغيرهما من دول العالم الثالث، لاتباع السياسات نفسها في قضايا حماية البيئة وتشغيل الأطفال ومستويات الضرائب ومكافحة الفساد وغيرها، لإيجاد ظروف منافسةٍ عادلة، غير أن هذا الفرض لن يكون ميسراً بسهولة، وكذلك من الصعب إلزام الشركات الكبرى الأوروبية والأميركية التي تستثمر في الصين الالتزام بسياساتٍ جديدةٍ وطنيةٍ، تقلص معدلات أرباحها، فحين تتعارض الوطنية مع الربح، سينحاز قطاع الأعمال إلى الربح.
تستعد الصين لأية احتمالات تغيير في السياسات الاقتصادية في الدول الكبرى، وتعمل باجتهاد لتطوير وجودها في اسواق آسيا وأفريقيا، وحتى أميركا اللاتينية، لتكون بديلاً عن أسواق أوروبا وأميركا مستقبلاً.
هل ستقود هذه الصراعات إلى أنماط جديدة من السياسات الاقتصادية مستقبلاً؟