28 مايو 2017
سلسلة النَّسَب الجهادي
إلى من، أو ماذا، تنتسب الظاهرة الجهادية؟ من هم أجدادها وآباؤها الملومون على إنجابها، مرة بعد أخرى، كلّ بضع سنين؟ حتى في نظر من يتّفق تماماً مع توجهات الدول العربية والغربية الـمُعلنة نحو الظاهرة الجهادية، ويتّفق مع ضرورة منع المواطنين من الاتجاه إلى بؤر القتال في دول أخرى والانخراط فيها، حتى في نظر هؤلاء، تظل السردية الرسمية في هذه الدول ناقصة، وغير مقنعة لأنها ناقصة. تتبنى الحكومات كافة سرديةً تصوّر علاقتها بالظاهرة الجهادية في صورة التناقضّ الجوهري والثابت، وتُحمِّل جَدّاً معيّناً مسؤولية تفريخ الظاهرة، فتلقي بالمسؤولية على الدول الأخرى، أو المجتمع المسلم وثقافته، أوالحركات الإسلامية، أو شخصيات الحقل الديني وفِكرها. وحتى عندما تصحّ هذه المسؤوليات قليلاً أو كثيراً، تظل السردية غير مقنعة تماماً، طالما أنها تتغافل عن دور الحكومات نفسها في إنجاب الظاهرة الجهادية، ثم استعمالها.
لكن سلسلة نَسَب "الجهاد" في الدول العربية والغربية من التعقيد والتذبذب والتشعب، إلى درجة أنه ما من سرديةٍ واحدةٍ من جهةٍ وحيدةٍ قادرة على قول كل الحقيقة بشأنها، فضلاً عن أن تكون هذه الجهة هي المؤسسات الرسمية في هذه الدول. انفتاح جبهات القتال المتكرّر، على مدى العقود الثلاثة الماضية، وتكرار الارتحال الجهادي، وتراكم الأخبار والدراسات العربية والمترجمة حول الظاهرة، يجعل من القبول والتسليم بمسألة إيقاع الملامة، وحمل المسؤولية، على طرفٍ وحده دون غيره، أمراً مستحيلاً بالنسبة إلى شخصٍ مطّلع سياسياً بحدّ أدنى.
عبر السنوات الماضية، تراكمت في المكتبة العربية دراسات وأعمال صحافية متقنة لمؤلفين من أمثال كميل الطويل وتوماس هيغهايمر ولورانس رايت، خاضت بجرأةٍ في العلاقات الحرجة بين الظاهرة الجهادية والحكومات العربية والغربية ونقاط الالتقاء بينهما، وحُقب التوافق السياسي على هدفٍ معيّن، وآليات العمل آنذاك وقنوات التمويل. كما تراكمت خبرات الملاحظة والرصد المباشر لتطورات الأحداث الراهنة، عند المراقب العربي الذي أصبح يرصد بسهولةٍ استعمالات الظاهرة الجهادية المتنوّعة في السياسة الدولية، ومن الحكومات التي تدّعي أنها تكافحها: استعمالها بوصفها موضوعاً للإدانة، وخطراً يتهدّد الدولة التي تواجه هبّة شعبية، وهدفاً للحملات الأمنية التي لا تراعي أبسط الحقوق الإنسانية، وصندوق اقتراع مُمتلئ بالأصوات لديكتاتورٍ شرس، وذريعة للتدخل العسكري حيثما استعصى ذلك، وأداةً لصنع التحالفات والمشاريع، وخطةً لهزيمة خصومٍ سياسيين، وصندوقاً لجمع التبرعات والمعونات الدولية، وأداةً للحضور في السياسة الدولية كلما فشلت باقي الأدوات.
الخُلاصة الأساسية التي يمكن الخروج بها من القراءة والملاحظة، هي النقيض التامّ مما تحاول
أن تقوله السردية الرسمية: إذا كان ما تقوله تلك السردية هو أن الدول العربية والأجنبية، في بعض الأوقات، كانت دائماً، وعلى طول الخطّ، على الضفة المضّادة للترحال الجهادي، فإن الملاحظة الواقعية والدراسات والوثائق والصحافة الجيدة تقول إن العلاقة بينهما، في أخفّ الأحوال، ذات طابعٍ متذبذب، بدأت مع الجهاد الأفغاني بحالة تبنٍّ صريح مارسته الدول العربية والإسلامية والولايات المتحدة الأميركية نفسها تحت غطاءٍ من المثالية الأخلاقية ونُبل القضية، ثم انحدرت تدريجياً مع تطوّر الحالة الجهادية وتمرّدها على صانعيها إلى نموذجٍ أشدّ التواءاً، كما في نموذج فتح الحدود السورية لعبور الجهاديين من أنحاء العالم إلى العراق إبّان الاحتلال الأميركي، أو فتح النظام في سورية السجون، حيث يقبع المساجين الجهاديون قصداً لإخراجهم مع اندلاع الثورة، أو التلاعب والارتزاق الطويل الذي مارسه علي عبدالله صالح، من خلال حربه المزعومة على القاعدة في اليمن، والقصة أضخم و أكثر تعقيداً.
من المفهوم أن الدول تقوم بانعطافاتٍ سياسية كبيرة، تجعلها تنتقل، خلال بضعة أعوام، من تبنّي الحالة الجهادية واستعمالها في مصالحها، نحو حصارها والحرب عليها، واعتبارها الخطر الأكبر. لكن ما يصعب فهمه عملياً هو أن تأخذ الدولة نفسها خطواتٍ إضافية، من أجل عقاب أفرادٍ أو دولٍ لم تقم بأمرٍ يختلف كثيراً. للظاهرة الجهادية آباءٌ كُثُر، أغلبهم يُنكر أبوّته، ويتبرأ منها، لكن المعضلة تنشأ عندما لا يكتفي أحد الآباء بالإنكار وحسب، فيتقدّم خطوةً نحو لوم الآخرين على إنكارهم وتنصّلهم من مسؤولياتهم الأخلاقية أمام المجتمع المحلّي أو الدولي عن استيلاد هذه الظاهرة، وتوجيه الاتهامات إليهم، والدعوة إلى محاسبتهم وعقابهم، سياسياً على الأقل. والمعضلة، هنا، إذا كانت المسؤوليات الأخلاقية قد لا تُعرض على المحاكم، لكنها لا تسقط بالتقادم، تتمثل في أن سلسلة النّسب الجهادي واسعة الحدود زمانياً ومكانياً، تمتدّ إلى ما قبل أربعة عقود، وفيما بين المشرق والمغرب، وأيّ بحث أمين عن العدالة والإنصاف في هذا الملفّ سيقود، حتماً وعبر طريق أو آخر، إلى تحميل من فتح هذا الملف، حصّته من المسؤولية.
@Emanmag
لكن سلسلة نَسَب "الجهاد" في الدول العربية والغربية من التعقيد والتذبذب والتشعب، إلى درجة أنه ما من سرديةٍ واحدةٍ من جهةٍ وحيدةٍ قادرة على قول كل الحقيقة بشأنها، فضلاً عن أن تكون هذه الجهة هي المؤسسات الرسمية في هذه الدول. انفتاح جبهات القتال المتكرّر، على مدى العقود الثلاثة الماضية، وتكرار الارتحال الجهادي، وتراكم الأخبار والدراسات العربية والمترجمة حول الظاهرة، يجعل من القبول والتسليم بمسألة إيقاع الملامة، وحمل المسؤولية، على طرفٍ وحده دون غيره، أمراً مستحيلاً بالنسبة إلى شخصٍ مطّلع سياسياً بحدّ أدنى.
عبر السنوات الماضية، تراكمت في المكتبة العربية دراسات وأعمال صحافية متقنة لمؤلفين من أمثال كميل الطويل وتوماس هيغهايمر ولورانس رايت، خاضت بجرأةٍ في العلاقات الحرجة بين الظاهرة الجهادية والحكومات العربية والغربية ونقاط الالتقاء بينهما، وحُقب التوافق السياسي على هدفٍ معيّن، وآليات العمل آنذاك وقنوات التمويل. كما تراكمت خبرات الملاحظة والرصد المباشر لتطورات الأحداث الراهنة، عند المراقب العربي الذي أصبح يرصد بسهولةٍ استعمالات الظاهرة الجهادية المتنوّعة في السياسة الدولية، ومن الحكومات التي تدّعي أنها تكافحها: استعمالها بوصفها موضوعاً للإدانة، وخطراً يتهدّد الدولة التي تواجه هبّة شعبية، وهدفاً للحملات الأمنية التي لا تراعي أبسط الحقوق الإنسانية، وصندوق اقتراع مُمتلئ بالأصوات لديكتاتورٍ شرس، وذريعة للتدخل العسكري حيثما استعصى ذلك، وأداةً لصنع التحالفات والمشاريع، وخطةً لهزيمة خصومٍ سياسيين، وصندوقاً لجمع التبرعات والمعونات الدولية، وأداةً للحضور في السياسة الدولية كلما فشلت باقي الأدوات.
الخُلاصة الأساسية التي يمكن الخروج بها من القراءة والملاحظة، هي النقيض التامّ مما تحاول
من المفهوم أن الدول تقوم بانعطافاتٍ سياسية كبيرة، تجعلها تنتقل، خلال بضعة أعوام، من تبنّي الحالة الجهادية واستعمالها في مصالحها، نحو حصارها والحرب عليها، واعتبارها الخطر الأكبر. لكن ما يصعب فهمه عملياً هو أن تأخذ الدولة نفسها خطواتٍ إضافية، من أجل عقاب أفرادٍ أو دولٍ لم تقم بأمرٍ يختلف كثيراً. للظاهرة الجهادية آباءٌ كُثُر، أغلبهم يُنكر أبوّته، ويتبرأ منها، لكن المعضلة تنشأ عندما لا يكتفي أحد الآباء بالإنكار وحسب، فيتقدّم خطوةً نحو لوم الآخرين على إنكارهم وتنصّلهم من مسؤولياتهم الأخلاقية أمام المجتمع المحلّي أو الدولي عن استيلاد هذه الظاهرة، وتوجيه الاتهامات إليهم، والدعوة إلى محاسبتهم وعقابهم، سياسياً على الأقل. والمعضلة، هنا، إذا كانت المسؤوليات الأخلاقية قد لا تُعرض على المحاكم، لكنها لا تسقط بالتقادم، تتمثل في أن سلسلة النّسب الجهادي واسعة الحدود زمانياً ومكانياً، تمتدّ إلى ما قبل أربعة عقود، وفيما بين المشرق والمغرب، وأيّ بحث أمين عن العدالة والإنصاف في هذا الملفّ سيقود، حتماً وعبر طريق أو آخر، إلى تحميل من فتح هذا الملف، حصّته من المسؤولية.
@Emanmag